على هامش الحرب: التخلص من صدمة ارتفاع الأسعار!

الأثنين 11 من شعبان 1443 هــ
العدد 49406
على هامش الحرب الأوكرانية، التى شنتها روسيا (بوتين)، مازال العالم، فى كل القارات، يعيش حالة من الدوار، أو انعدام الوزن، أو البحث عن المستقبل، أو الخروج من الكارثة. هناك من يتحدث عن نظام دولى جديد، وعالم مختلف ينمو من رحم الحرب الأوروبية، وهناك أوروبا، التى أصبحت فى حالة خوف من روسيا، وعادت إلى التسليح من جديد، وأهمها ألمانيا، التى تشعر بضرورة الاعتماد على ذاتها أمنيا.
إن ما يخصنا فى الشرق كبير، وما يعنينا فى مصر، خاصة، أكثر وأهم، فنحن أكبر دولة مستوردة للقمح فى العالم، والمنشأ الروسى، والأوكرانى كان هو المفضل لدينا، رغم أن المصريين فطنوا، منذ سنوات، إلى أهمية تعدد، وتنوع مصادر، أو منشأ الاستيراد، ونحن نستورد فعلا من أمريكا، وأستراليا، وروسيا، وفرنسا، فهناك أكثر من عشرين بلدا يأتى منها القمح ومنتجاته (غذاء الإنسان، وعلف الحيوانات كذلك، والزيوت أيضا)، ورغم أن السوقين الروسية، والأوكرانية، نقطتى الحرب الدائرة، كانتا الأكثر، ومازالتا، تفضيلا للسوق المصرية، للأسعار المناسبة، وسرعة الوصول (تصل فى ١٠ أيام)، ولأن مصر الأكثر استيرادا، والسوقين الروسية والأوكرانية الأكثر إنتاجا، فإن الحرب الراهنة تعطينا دروسا بليغة، لأن روسيا ليست محطة وقود لأوروبا فقط، وأوكرانيا ليست سلة غلال لأوروبا فقط، ولكن لمعظم بلدان الشرق الأوسط، وأهم الدروس التى نستخلصها من هذه الحرب أن تعود مصر من جديد منتجة لغذائها، خاصة القمح، الذى مازال يتربع على عرش غذاء المصريين، ولم تستطع البطاطس، أو الأرز، إلغاءه من على المائدة المصرية، فنحن نأكل العيش مع كل الوجبات، حتى أصبح اسم الخبز العيش، أى من دونه لا نستطيع الحياة.
وإذا ما تخلصنا من صدمة ارتفاع الأسعار المطردة، نتيجة هذه الحرب، واتجهنا للتفكير فى المستقبل، وتخطيط إنتاجنا، وغذائنا من جديد، وإذا غيرنا الرؤية القاصرة للحياة، فالخبز ليس العيش، ونحتاج للتقليل من استخدامه فى غذائنا إلى الشكل الصحى، والرشيد، والاستعداد لإحداث تحول فى نمط الغذاء ليكون أكثر صحة للإنسان، فكثرة الخبز تؤدى إلى السمنة، ولذلك حرص المسئولون على الاستيراد بكثافة، ومعدلات استهلاكنا للقمح أكبر بكثير من احتياجاتنا، فهو سلعة الفاقد الكبير فى كل موائد الغذاء، وإذا كنا نستطيع تجاوز هذه الأزمة، لكثرة إنشاء الصوامع فى الموانئ، والزيادة النسبية فى الإنتاج المحلى المصرى، التى تقترب من ١٠ ملايين طن قمح- فإننا إذا اهتممنا بتغيير السياسة السعرية للقمح، والعيش، بحيث يدرك المستهلك أهمية أن يحصل على احتياجاته فقط- فإنه من الممكن أن تصل مصر إلى ٦٠% من الإنتاج المحلى، تمهيدا لزيادة الإنتاج، وصولا إلى الاكتفاء من هذه السلعة الإستراتيجية المهمة، وهذا ممكن جدا.
ولعل هذه الأزمة تجعلنا نفطن إلى ما تملكه مصر من مخزون طمى النيل، وهو الكميات المترسبة منذ بدء التخزين من مياه الفيضان فى عام ١٩٦٤، والتى تقدر بمائة مليون طن سنويا (قدرت بـ ٣٫٥ مليار متر مكعب) حيث يترسب جزء كبير فى مداخل بحيرة ناصر، فهذا الطمى هو الكلمة السحرية لإنتاج القمح والحبوب عموما، وإذا حدث اهتمام بهذه الثروة، فهى تكفى لتغيير كامل التربة الرملية المصرية، حيث تحدث تحول فى خصوبتها، وقدرتها على زراعة الحبوب، لتعود مصر صومعة العالم، كما كانت، ولا نحتاج إلى استيراد غذائنا من الخارج، كما أن طمى النيل يحتوى على كل المكونات اللازمة لهذا التحول، فهو كلمة السر لإنتاج الحبوب، خاصة أن مشروع توشكى، الذى أحيته الحكومة المصرية أخيرا، قريب من استخراج طمى بحيرة ناصر، ويمكن إضافة هذا الطمى إلى أراضى توشكى ليعمل على تحسين صفاتها الفيزيقية، وهو ما يزيد خصوبتها للاستزراع، والاستغلال الزراعى، وإذا ما عرفنا أن الرمال السوداء الموجودة فى طمى بحيرة ناصر تحتوى على المعادن الاقتصادية المهمة التى تدخل فى العديد من الصناعات- لاكتشفنا الأهمية الاقتصادية لهذا المخزون، أو الثروة المتجمعة لدينا. أعتقد أن هذا المشروع يجعلنا نستفيد أكثر من السد العالى، ليس بحجز المياه فقط، أو أننا نملك بنكا للمياه نستخدمه وقت حاجتنا، بالأساليب الاقتصادية الرشيدة، وإنما من خلال الطمى، الذى يكون تربة مصر السوداء، وحُرمنا منه لمدة تصل إلى أكثر من ٧ عقود، كثروة قومية، فهو يجدد تربة مصر، ويخلصنا من التلوث، وكسماد عالى الجودة، فإنه يستطيع أن يغير من كيمياء تربة الزراعة المصرية ككل.
إن الخروج من تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا له تأثيرات سياسية، وإستراتيجية، واقتصادية، كبيرة، لا يستهان بها على كل دول العالم، خاصة مجالى النفط والغذاء.
فقد دخلت كل الدول إلى عالم جديد يسوده مناخ من الخوف، والأزمات، ولتقليل حدة هذه الأزمات، والتقليل من أزمات الغير، علينا أن نخرج من صدمة ارتفاع الأسعار، التى شملت الطاقة والغذاء، خاصة القمح، إلى مرحلة إعادة تخطيط النظام الإنتاجى، حتى لا يكون مرهونا للخارج، أو معتمدا على الاستيراد، وإمكانات الإصلاح الاقتصادى، واستكماله، فى مصر، مازال فى مراحله الأولى، ويجب أن نستكملها، ولا نتوقف، وأتصور أن مواردنا الاقتصادية، وإمكاناتنا، فى حالة استخدامها بشكل منظم، ودقيق، مع ترشيد الاستهلاك، تكفى احتياجاتنا، ويكفى أن نعترف بأن الإصلاحات، التى قامت بها مصر، من زيادة الإنتاج، وإنشاء الصوامع، والتخزين الصحى، والرشيد فى الموانئ، وترشيد استخدام المياه، وتبطين الترع، والتعديلات فى أسعار الطاقة المحلية.. وياحبذا لو كنا غيرنا المنظومة السعرية للخبز- قد قللت، إلى حد كبير، من التأثيرات المتوقعة، نتيجة حالة الاهتزاز المتوقعة فى الأسواق العالمية.