بعد كوارث القطارات.. ثمن الإصلاح والتغيير

تلوح الآن في الأفـق القريب إعـادة بعث للسـكك الحـديدية
توالت حلقات كوارث القطارات بلا أحداث جديدة سوي عدد الضحايا
لقد باتت الحكومة مطالبة الآن بألا تتوقف أمام قلة الاعتمادات اللازمة للصيانة
لابـد أن تسـتمر حمـلتنا لمواجهـة الإهمـال
مانريده حقا هو ألا نشهد صباحا آخر يحمل إلينا رائحة دماء المزيد من أبنائنا
جاء تحرك الدولة, بعد حادث قطار قليوب المفجع, مختلفا هذه المرة, شكلا وموضوعا, لقد حدث تحرك حقيقي ومحموم لتوفير الاعتمادات اللازمة لإنقاذ سكك حديد مصر, وتوافرت الأموال من أكثر من جهة منها عائد بيع شبكة المحمول الثالثة, ولم يبق إلا أن تعلن الحكومة الجدول الزمني لتنفيذ عمليات التغيير الجذرية, في أقدم وأكثر مرافق النقل أمنا للإنسان والبضائع.
تلوح الآن, في الأفق القريب, إعادة بعث للسكك الحديدية مما سيكون له تأثيره في وسائل النقل الأخري, وفي تحسين الطرق التي تشهد حاليا حوادث مؤلمة وزحاما وتكدسا شديدا, ينعكس علي أمنها ومهمتها الأساسية في تيسير حركة المواطن. من المؤسف أن حوادث الطرق المتزايدة باتت وصمة عار علي سمعة البلاد, وعلي اقتصادها. فلم تعد اللجان التي تنبثق مع كل كارثة تحل علينا تجدي نفعا, ولابد أن نعلن بكل وضوح أننا نواجه بالفعل لحظة خطر حقيقي, وأن علينا جميعا التلاحم لتجاوزها, حكومة ومؤسسات وشعبا, وأن نقف موقفا حازما ضد الإهمال والتسيب, وأن ننظر إلي ضروريات اللحظة الراهنة في مواجهة كارثة هزت وجداننا وصهرتنا جميعا في لحظة ألم جماعية, فليس بالأموال وحدها ينصلح حالنا, ولكن بالتنظيم ومواجهة الإهمال وتنفيذ القوانين وبناء المؤسسات التي تضمن التنفيذ والعمل الجاد وحسن سير المجتمع.
وهذه اللحظة بإمكانها أن تغير ـ للأبد ـ روح التراخي والفوضي التي سادت في العديد من الخدمات والمرافق العامة, وهي تحتم علينا أن ندرس ـ بشكل عميق ـ الأسباب التي أدت إلي تزايد معدلات حوادث الإهمال, وما ينتج عنها من كوارث يروح ضحيتها العشرات من الأبرياء البسطاء, حتي أصبح الموت يحيط بنا في وسائل النقل برا وبحرا, فنحن لم نفق بعد من كارثة عبارة البحر الأحمر التي كانت نموذجا صارخا للإهمال والفساد لا يمكن محوه من الذاكرة ولايمكن أن يغيب ضحاياها عن الوجدان فعبارة السلام98 المتهالكة أساسا, والتي غرقت بمن عليها كانت كارثة مروعة هزت وجدان الجميع, ووصل فيها الإهمال إلي درجة بالغة القسوة وبلادة الحس والإدراك وبطء التحرك, مما جعل المحصلة المنطقية هي أن الكوارث تتكرر وتتعاقب دون أن يكون هناك أي قدر حقيقي من التطوير في أدائنا وقدرتنا علي مواجهة الكوارث أو حتي التعلم منها.
وكل ما يمكن أن نرجوه هذه المرة هو أن يكون التحرك ـ لتجنب وقوع المزيد من تلك الفواجع ـ مختلفا, وقد بدأ ذلك بالفعل, ولكن علينا أن نضمن استمراره دون انتظار لكارثة جديدة فما زالت معدلات الكوارث في ارتفاع وتسارع بما يعني أنه من الممكن أن تمتد إلي مناطق ومجالات كثيرة وغير متوقعة نتصور أنها ستظل آمنة!
لقد توالت حلقات كوارث القطارات وانهيار السكك الحديدية في مصر وكذلك حوادث الطرق السريعة وكأننا نتابع مسلسلا جديدا بلا أحداث جديدة, اللهم إلا ارتفاع عدد ضحايا كل حلقة عن الحلقة التي سبقتها وكأنه مسلسل رعب مفروض علينا متابعته دون أن نجد سبيلا إلي التدخل لمنع عرضه أو تعديل سيناريو حلقاته المروعة ولهذا لم يكن غريبا أن نرصد خلال الأشهر الأخيرة عدة حوادث وقعت علي قضبان السكك الحديدية تمثل بالفعل جرس إنذار لا يمكن لأي إنسان تجاهله فلقد رصدت وزارة النقل خلال الشهر الماضي وحده28 حادثا ما بين صغير وكبير و103 حالات أعطال خلال الشهر نفسه فماذا كانت النتيجة؟ ثم كيف تراجعت سكك حديد مصر ذات التاريخ العريق وثاني أقدم سكك حديدية في العالم بعد انجلترا إلي هذا المستوي القياسي المتدني من الإهمال وانعدام الصيانة وقدم المركبات؟!
إنها أسئلة ملحة تفرضها دماء الضحايا التي لم تجف ولن تجف في وجداننا, وتدفعنا إلي البحث عن أساليب مختلفة في مواجهة الكوارث والمصارحة التي تكفل لنا إلي حد كبير عدم دفع فاتورة من دماء البسطاء الأبرياء ثمنا لخوفنا من مواجهة أخطائنا وعدم رغبة البعض في دفع ثمن الإصلاح والتغيير, حتي لو كان لإرضاء الناس فسرعان مايكتشفون خطورة جريمة التهاون والإهمال أو عدم دفع تكلفة الخدمة وصيانتها للحفاظ علي الأسعار أو لتحقيق الاستقرار الوهمي.
وينبغي علينا الاعتراف بأننا أمام سكك حديدية محفوفة بالمخاطر جعلت التعامل مع أكثر وسائل النقل أمانا في العالم مغامرة غير محسوبة العواقب يتحمل عبء القيام بها ما يقرب من مليون ونصف مليون مواطن يوميا مضطرين لركوب1250 قطارا للركاب والتعامل مع50 قطارا للبضائع في أكثر من1300 مغامرة يومية..
ودعونا نعترف بأن المشكلات معروفة ومرصودة ويصنفها الخبراء بين تقادم الجرارات(139 جرارا عمرها أكثر من30 عاما و255 جرارا عمرها أكثر من عشرين عاما) وتقادم العربات ونظم إشارات كهربائية بالية, بل هي غالبا غير موجودة أساسا علي معظم خطوط القطارات مع تهالك واضح في القضبان والفلنكات, بالرغم من أنها جميعا مكونات أساسية لنظام سكك حديدية قابل للاستخدام وبالتالي فإنها في حاجة إلي تغيير وتجديد.
لقد باتت الحكومة مطالبة الآن بألا تتوقف أمام قلة الاعتمادات اللازمة لأعمال الصيانة أو تجديد الخطوط وأصبح لازما عليها أن تمنح السكك الحديدية الأولوية في أجندة إصلاحها فهي في النهاية الشريان الذي ينقل البشر و البضائع لكي يوفر حياة جديدة للمصريين تتناسب مع التطور الذي نلمس أوجهه في مختلف أوجه الحياة ببلدنا.. والحقيقة أن من قال سكك حديد مصر هي مصر لم يجانبه الصواب فهي بالفعل تربط بين الدلتا و الصعيد, وهي التي يمكنها أن تحقق الوحدة الجغرافية والوطنية, ولاشك في أن تطويرها ينقل قطاع النقل إلي موضع متقدم من الإصلاح والتطوير, والأهم انه يضع حماية الأرواح علي قمة الأولويات.
ونعتقد أنه إذا استثمرت الحكومة المبادرات الخلاقة, وسعت إلي إشراك المواطنين القادرين وغيرهم في حملات وطنية لإنقاذ السكك الحديدية فسيحدث تجاوب وطني من الجميع علي اختلاف إمكاناتهم, وفي هذا الصدد أتساءل: لماذا لا ننادي بإنشاء صندوق وطني لإنقاذ هذه الوسيلة المهمة للنقل من الحالة المزرية التي وصلت إليها لنعيد إليها أصالتها وعراقتها ودورها البارز الذي لعبته وستلعبه دوما في الاقتصاد الوطني و النقل العام.. وأن نجعلها تصل إلي مستوي مترو الأنفاق الذي نرجو ألا تصل إليه أيادي الإهمال أو غياب الصيانة. ونقترح في هذا الصدد الدعوة إلي إنشاء صندوق عام يموله رجال الأعمال وأفراد الشعب بمختلف فئاته وتسهم فيه الحكومة بالحصة الكبري لنختصر الوقت ويعود الدم إلي التدفق مرة أخري بحيوية في هذه الشرايين الأساسية لاقتصاد الأمة وتاريخها؟.
إن الحوادث و الكوارث التي هزت وجداننا خلال الأشهر الأخيرة من غرق عبارة السلام98 وحوادث القطارات المتلاحقة, تزيد من معدل مخاوفنا وقلقنا علي مشروعاتنا, وعلي ما نحرزه من تقدم وإصلاح اقتصادي ولكنها يجب ألا تهزنا ومن ثم ينبغي أن تدفعنا إلي العمل بكل حماس علي استكمال عمليات الإصلاح, فلقد أكد الرئيس حسني مبارك مرارا أن أرواح الناس اغلي علينا من أنفسنا والسؤال: متي سنعلن حربا حقيقية علي الإهمال والفوضي حتي نحمي أرواح أبنائنا؟ ومتي سنتلاحم أفرادا ومؤسسات لكي نعمل يدا واحدة في استكمال مسار الإصلاح والتقدم؟.
إننا ندرك جميعا أن أسهل الطرق الآن هي إلقاء النقد والاتهامات جزافا علي الجميع.. والأسهل هو أن نحمل الحكومة أو وزير النقل المسئولية كاملة عما حدث, وأن نطالبهما بالاستقالة ونجعلهما كبش فداء, لعلنا نطفئ نيران غضبنا أو نسكته للحظات لكي يستريح ضميرنا بأننا ثأرنا لضحايانا.. ولكن ينبغي ألا ننسي أن إقالة أو استقالة وزير نقل سابق مع رئيس هيئة السكك الحديدية, عقب كارثة قطار العياط منذ أكثر من ثلاث سنوات, لم تنه مسلسل كوارث القطارات فوقع أكثر من حادث. ومن هنا فإن علينا أن ندرك أن الأهم الآن هو أن نتجاوز الكارثة بكل ثقلها وبشاعتها وأن نبدأ في وضع خطط لإصلاح الخدمات والمرافق العامة في كل الاتجاهات وان نقدم المبادرات التي تسهم في عملية التمويل وفقا لخطط قابلة للتنفيذ بهدف إعادة إنشاء سكك حديدية جديدة ودعم إنشاء جهاز قومي لإدارة الكوارث والأزمات لكيلا تتحول مواجهة الأزمات إلي أزمة في حد ذاتها, وعلينا أيضا أن نعجل من إيقاع خطواتنا مدفوعين بدماء الضحايا وأهلهم الذين يصرخ لسان حالهم أنه قد آن الأوان لكي تخرج الدراسات والاقتراحات المخزنة والمهملة من أدراجها إلي النور وتتحول من مجرد أوراق باردة إلي خطط للإصلاح والنهضة تدفعنا إلي الأمام
وأخيرا دعونا لا ننس هذه المرة دماء الأبرياء فلابد أن تستمر حملتنا لمواجهة الإهمال ـ ليس عقب الكارثة فقط لنريح ضميرنا ثم نعاود ممارسة حياتنا الرتيبة ـ فلقد أصبح من المحتم علينا أن ندفع ثمن ما نريد وليكن ما نريده حقا هو ألا نشهد صباحا آخر يحمل إلينا رائحة الموت ودماء المزيد من أبنائنا ضحايا للإهمال والتكاسل وغياب تطبيق القانون.
osaraya@ahram.org.eg