بيان الحكومة.. ما له وما عليه

لم يكد الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء ينهي إلقاء بيان حكومته الثاني بعد الانتخابات الرئاسية أمام مجلس الشعب حتي توالت ردود المعارضة عليه, وقبل أن تتاح الفرصة المتأنية لقراءته قراءة متعمقة, فهو مليء بالأرقام والمشروعات والسياسات. وقد غلب علي هذه الردود أنها وقعت فيما اتهمت به بيان الحكومة من عمومية وإسراف في الآمال والطموحات دون خطط واضحة أو أهداف محددة.ففي السجال الديمقراطي من حق المعارضة أن تعترض, وأن تسعي إلي تفنيد كل أو بعض ما جاء علي لسان رئيس مجلس الوزراء, ومن حقنا علي المعارضة أن تكشف لنا حقيقة ما تقوله الحكومة عن إنجازات العام الماضي, وخطط إنجازاتها للعام المقبل. ولكن يجب علي المعارضة لكي تفي بهذا الحق أن تلجأ إلي لغة حوار أرقي من تلك اللغة التي تستخدمها في مناقشة قضية بمثل أهمية بيان الحكومة. فالسخرية من البيان بعد ساعات من إلقائه, دون قراءة ولو أولية, تكشف عن نية مبيتة وعن سطحية واضحة فمثلا قال أحد نواب المعارضة إن الدكتور نظيف نسي أن يقول إن تماثيل من الرخام سوف ترتفع فوق دار للأوبرا في كل قرية مصرية, وقال معارض آخر إن بيان الحكومة يشير إلي أنه سوف تصبح لدينا فوائض مالية لابد أن نبحث لها عن دول فقيرة تستفيد منها.. فمثل هذا العبث السياسي لابد أن ينتهي من حياتنا. فبيان الحكومة أولي بالجدية والقراءة والفحص والدراسة والمحاسبة, من إطلاق كلمات هزلية لاتنفع حكومة أو شعبا. لقد جاءت التصريحات المبكرة لبعض أصوات المعارضة بشأن البيان مخيبة للآمال في وجود معارضة حقيقية قادرة علي محاسبة الحكومة, في الوقت الذي يبذل فيه الحزب الحاكم مساعي جادة لتفعيل الدور الرقابي لمجلس الشعب, ودعم مكانته في حياتنا السياسية, وكان الأولي بالأصوات الهزلية التي بادرت بالسخرية من بيان الحكومة أن تقرأ, ثم تدرس, ثم تعي, ثم تخرج علينا بخطاب عقلاني رشيد يفند أو يدعم ما جاء في خطاب رئيس مجلس الوزراء أمام المجلس. فنحن نفترض أن أعضاء البرلمان نواب عنا في محاسبة الحكومة في حالتي الخطأ والصواب معا, لا أن يخرج بعضهم ساخرا دون فهم, أومتهكما دون معرفة. صحيح أن الأصوات التي أتحدث عنها لايتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة وأنها لاتمثل الأغلبية, و لكن لابد أن يكون البيان بكل مافيه رهن اهتمامهم وقراءتهم المتعمقة, فمكانة البرلمان وأعضائه أرفع من مناورات سياسية ساذجة يريد البعض بها توفير مادة صحفية مثيرة تترقبها بعض الصحف. لقد تحدث بيان الحكومة عن البطالة والتشغيل والاستثمار والصناعة والتعليم والبحث العلمي والري والزراعة والإسكان والتمويل العقاري والسياحة والمرافق والطرق وتحسين مستوي معيشة المواطن البسيط والارتقاء بالخدمات المقدمة له, ومع ذلك خرج علينا من أعضاء الجماعة التي تحيط نفسها بالقداسة من يقول إن البيان جاء خاليا من القضايا الرئيسية للمصريين.. ولست أعلم وقد عشت بين هؤلاء المصريين ما يزيد علي نصف القرن, مشكلات غير تلك التي جاء بها البيان. وربما لم يجد النائب حلولا تروق له ـ وهذا من حقه, لكن كان أولي به أن يستخدم لغة أكثر دقة وأكثر تعبيرا عن ذلك, بدلا من أن ينفي عن البيان اهتمامه بمشكلات المصريين. وبعيدا عن الكيفية التي ينبغي أن يعامل بها بيان الحكومة في البرلمان, فإن ما جاء علي لسان رئيس مجلس الوزراء يستحق الكثير من الاهتمام والانتباه. فنحن أمام بيان يستعرض إنجازات عام مضي ويرسم ملامح العمل والإنجاز لعام آخر مقبل, حيث ننظر إلي البيان باعتباره ترجمة واقعية لبرنامج طموح انعقدت عليه إرادة المصريين عندما انتخبوا الرئيس حسني مبارك قبل أكثر من عام, كما أنه مقيد بمهام واضحة جاءت في خطاب التكليف. وفي إطار هاتين الوثيقتين يمكن الحديث عنه مثلما تحدثنا عن بيان العام الماضي. | |
قوة عمل حقيقية.. لابطالة مقنعة تصدرت قضية البطالة بيان الحكومة, وهي أكثر القضايا أهمية في حياتنا الراهنة, باعتبارها الناتج النهائي لمعظم الجهود في جميع أنشطة الحياة. فخلال العام الماضي أتيحت850 ألف فرصة عمل, بالإضافة إلي ما تم توفيره من فرص في القطاعات غير المسجلة, وهو رقم يزيد علي المستهدف بنحو100 ألف فرصة, ويعد بكل المعايير إنجازا حقيقيا لابد من التوقف عنده. فالأرقام المعلنة مثبتة ويمكن التحقق منها, ومن القطاعات التي أتاحت هذه الفرص, وسجلات التأمينات وحقيقة فرص العمل الخارجية التي أتيحت في العام الماضي وحده وهي134 ألف فرصة.وينبغي النظر إلي هذا الرقم في إطار مفهوم جديد لفرص العمل, وهو وجود عمل حقيقي وليس علي طريقة التوظيف الحكومي القديمة. فهذا الرقم يعني أن أنشطة حقيقية ومجالات إنتاج فتحت لتستوعب جهد هؤلاء الذين انضموا إلي سوق العمل في العام الماضي وحده. ولذلك من المتوقع أن تكون قوة العمل الجديدة إضافة حقيقية لنشاط إنتاجي سوف يتحقق قريبا. ويرتبط بقضية التشغيل قضية أخري علي درجة من الأهمية, هي قضية التدريب وإعادة تأهيل القوي العاملة المصرية للتعامل مع واقع متغير. ففي قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وحده تم تدريب20 ألف شاب, وهذا القطاع يمكن أن يشهد نموا هائلا في مصر بحكم التحول العالمي نحو اقتصاد المعلومات من ناحية, وتوفير الخبرات والمؤهلات المصرية بشئ من التدريب, من ناحية أخري. وبوجه عام فإن الاهتمام بالتدريب يبدو قضية حيوية في جميع المجالات, التي تخلفت فيها المهارات عن حركة سوق العمل, وقد خصصت الحكومة لذلك نحو500 مليون جنيه. نمو حقيقي يغير مصر بالتراكم والانتهاء من توصيل الكهرباء لكل القري المحرومة ورفع تغطية خدمات الصرف الصحي من4% إلي40% لجميع قري مصر بتكلفة تزيد علي20 مليار جنيه, وإنشاء132 ألف وحدة سكنية واستكمال التخطيط العمراني لأكثر من1300 قرية, وعلينا أن نتمسك بهذا النمو ونعمل علي استمراره, فهو طريقنا إلي إحداث تراكم يؤدي إلي تغيير وجه الحياة في مصر, بحيث يشعر كل مصري بعائد التنمية, ويتحول هذا النمو من عملية رقمية إلي تأثير ملموس في حياة كل المصريين. الناقص في بيان الحكومة ولم يتطرق البيان إلي قضية الدعم, وسبل توزيعه التوزيع العادل, الذي أرهق الاقتصاد طويلا ولم ينصف الفقراء في وصول الدعم إليهم. وكذلك للعام الثاني يتجاهل بيان الحكومة الشكوي اليومية للمصريين جميعا, وهي تتعلق بالحد من العشوائية والفوضي السائدة في الشارع المصري والتي وصلت إلي حدود الخطر. فالحكومة تعلم قبل غيرها العبء الاقتصادي لهذه الحالة التي أصبحت حاكمة في مجالات كثيرة من حياتنا. وكنت أرجو أن يتطرق البيان إلي كيفية مواجهة التسيب اليومي في المرور والبناء والطرق وتفعيل القانون خاصة أن هذه القضية تطرق إليها برنامج الرئيس الانتخابي. إنه من الصعب أن نعرض في مقالة مؤشرات كثيرة جاء بها بيان الحكومة بشأن إنجازات العام الماضي, وخطط العام المقبل, غير أن البيان يستحق الكثير من الاهتمام والتمحيص, فلقد شهدت العلاقة بيننا وبين بيان الحكومة تغيرات واضحة في السنوات الاخيرة, بحكم مرجعيتها الرئيسية المتمثلة في برنامج الرئيس الانتخابي, الذي يظل معيارا اساسيا في تقويم عمل الحكومة. وإذا كان مجلس الشعب هو الجهة المنوط بها الرد علي بيان الحكومة, فإن البيان لابد أن يخضع لفحص ودراسة من الرأي العام, وهذا يتطلب خطابا إعلاميا وسياسيا حول المكونات الأساسية له, فالقضايا التي يعرضها ليست مقصورة علي فئة دون أخري, والأمر علي هذا النحو قد يدفع بالغالبية نحو الصمت المربك لبرامج التنمية, ولذلك ينبغي أن يشارك الجميع في مناقشته. وتبقي نقطة أخيرة تثار مع كل بيان للحكومة, وهي أنه في الوقت الذي تجنح فيه بيانات الحكومة نحو التفاؤل وتحتوي علي الكثير من المؤشرات الإيجابية فإن ذلك لاينعكس علي الحياة اليومية للمواطن العادي, الذي هو هدف التنمية وجهود الحكومة. والحقيقة أن البعض يتصورون أن عاما من الإنجازات الحكومية كفيل بتغيير وجه الحياة, لكن الواقع يؤكد أنها مهمة تحتاج إلي سنوات طويلة ومتصلة من الإنجاز والعمل. ومع ذلك فلا بد أن نعي جيدا وأن نتذكر ما كنا فيه, وما أصبحنا عليه, وكيف أننا أوقفنا تدهور مستويات الحياة في بلادنا وقطعنا علي الطريق بضع خطوات. ونحتاج الآن إلي شيء من الواقعية في النظر لحجم المشكلات وحجم الجهود المبذولة في مواجهتها.ولابد أن نحافظ علي السير في الاتجاه الذي يفكك الكثير من المشكلات, حتي يصبح في مقدورنا القضاء عليها, وهذه مهمة ليست سهلة بكل المعايير.إذ إننا لسنا في عصر الطفرات الاقتصادية, ولكننا نمضي بخطي ثابتة علي طريق طويل تنعقد فيه الإرادة علي بلوغ الأهداف. | |