حدث في عزبة عرب الوالدة بحلوان

منحني التطوير الذي حدث في منطقة حلوان والمعصرة, وتحديدا في عزبة عرب الوالدة, يقينا بأن هناك عملا جادا لإنقاذ القاهرة من العشوائيات والفوضي والانهيار, وأن الصورة لم تنته بتجميل مصر الجديدة, بمناسبة مرور مائة عام علي إنشائها, ولا بحديقة الأزهر الرائعة التي تطل علي المنطقة الأثرية الإسلامية بالدرب الأحمر.
لا أعتقد أنه تنقصنا الهمة والإرادة والعزيمة للتغيير, فالذين تابعوا افتتاح السيدة سوزان مبارك المرحلة الأولي من تطوير عزبة عرب الوالدة في حلوان الأسبوع الماضي, لم يريدوا الحديث عن هذه المنطقة قبل أعوام قليلة, وإنما اكتفوا بالحديث عما آلت إليه بعد أن امتدت إليها الأيادي البيضاء للسيدة سوزان مبارك, وحقيقة الذي تم في هذه المنطقة لا يمكن فهمه إلا في سياق ما كان, وما أصبح فيه مائتان وخمسون ألفا من المصريين في واحدة من العشوائيات الكبري.
فقد ظلت الأطراف الجنوبية لمدينة القاهرة مثل غيرها سكنا لتجمعات البدو الذين كان المصريون يعرفونهم باسم العرب منذ فترات تاريخية طويلة, ومع النصف الأول من هذا القرن بدأت هذه الأطراف الجنوبية المتاخمة لمنطقة حلوان تستقبل هجرات الفقراء, ومع تزايد موجات هذه الهجرات خلال النصف الثاني من القرن الماضي ظهرت العشوائيات التي وصل عددها في حلوان وحدها إلي23 منطقة عشوائية, كانت عرب الوالدة إحدي أكبر هذه العشوائيات.
وخضغت المنطقة لسلطان التطرف يمارس فيها خطأ تصوراته عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, حيث وصل عدد المساجد إلي28 في وقت لم تكن فيه مدرسة واحدة.
ومنذ تسعة أشهر, وبالتحديد في أغسطس الماضي, كانت السيدة سوزان مبارك تضع حجر الأساس لتطوير هذه المنطقة التي اختارتها بنفسها, ورغم أن الواقع كان أليما بكل المعايير فإنها وعدت نساء وأطفال ورجال هذه المنطقة بأن تبني معهم مجتمعا سمحا آمنا يحقق لهم أفضل سبل الحياة, و في أشهر قليلة ارتفعت في شوارع المنطقة أشجار ونخيل, وتم رفع23 ألف طن من المخلفات والقمامة, وعرفت المنطقة لأول مرة في تاريخها زيارات عمال النظافة, فتم رفع الإشغالات وتوسيع الشارع الرئيسي, واكتست المباني بلون جديد موحد, دخلت القوافل الطبية والعلاجية ووضع أساس مستشفي جديد وحديث, وتم ترميم المدارس القائمة وإعادة الحياة إليها, وتم تكريم التلاميذ المتفوقين, وأنشئت مدارس ابتدائية وإعدادية, وأنشئ مركز للشباب وناد آخر علي مساحة18 ألف متر وأنشئ مجمع خدمات الشباب, ورصفت الشوارع, وأنشئت مكاتب للبريد وقائمة أخري من الخدمات.
وفي الأسبوع الماضي كانت ترتسم علي وجه السيدة سوزان مبارك ملامح لا أستطيع وصفها إلا بكلمة واحدة هي الرضا, عما قدمته لهؤلاء الذين زرعت فيهم آمالا عزيزة بحياة كريمة آمنة هادئه وهذه الصورة, وتلك الأعمال يمكن أن نكررها في كل مكان علي أرض مصر, إذا تغيرت الإدارات والحكم المحلي, وملك كل فرد في مجتمعنا إرادة التغيير والعمل الجاد والمشاركة, والتجارب حية أمامنا.
فما جري جعلني أواصل ما عرضته من قبل بأن تشترك وزارتا الخارجية والإعلام, والبنك الأهلي ورجال الأعمال والمؤسسات في منطقة بولاق, في القيام بعمل خلاق, نعيد به بناء القاهرة من وسط المدينة, أي من قلبها, فلا يجوز أن تقبل هذه الوزارات والمؤسسات العملاقة بأن تظل مبانيها الشاهقة في منطقة عشوائية كبري تنتشر فيها العشش والمباني الآيلة للسقوط.
ويمكن أن نعيد دراسة ما فعلته السيدة سوزان مبارك في طريقة المشاركة الشعبية لكي نندفع ونغير القاهرة من القلب, وتشير كل الدراسات الحديثة إلي أن إعادة بناء المدن القديمة وتخطيطها أصبح أسهل من بناء المدن الجديدة, والقاهرة ستكون حدثا فريدا, خاصة منطقة بولاق أو البحيرة الجميلة المطلة علي النيل الخالد, والتي تضم وسط المدينة, بمبانيها الأوروبية التي تعرضت للأهمال نتيجة انعدام الصيانة, إذا بدأنا في إعادة تخطيطها وبنائها بنمط حديث وموحد.
فالقاهرة تستحق وسطا جديدا للمدينة, فلسنا أقل من بيروت التي تهدمت بعد الحرب, ثم قامت شركة حديثة جذبت رؤوس الأموال, عربية وأجنبية, فتجددت بيروت من وسطها, وهذا نفسه ما يحدث في معظم البلدان العربية في الخليج والشام والمغرب العربي, فهناك صحوة كبري في عملية التخطيط العمراني,وتستوجب حماية عملية البناء, وقيام البلديات الحديثة, وجمعيات التنمية المحلية, وإعطاء الحكم المحلي روحا قوية واستقلالا وقوانين خاصة, ليس في عمليات البناء والتجميل فقط, ولكن حماية للبناء والشوارع, أما صيانتها فهي عملية مستمرة, وتكاد تكون أخطر من البناء نفسه.
ومصر ومدنها عاشت حالة طويلة من الإهمال, ولذلك فهي في حاجة اليوم إلي صحوة قاسية, وعمل مستمر حتي لا يختلط الأمر بين القرية والمدينة, فحاجتنا إلي تحديث المدن وتجديدها لا تقل عن حماية القرية المصرية, واختيار نمط حديث للبناء, ونحن مقبلون علي تجربة جديدة أعلنت عنها الحكومة ببناء400 قرية حديثة, وإذا لم تقم بنمط بناء مميز ومنظم ومتطور يلبي حاجات السكان ويحافظ علي الجمال ويربي الذوق العام فستكون إضافة إلي قرانا ومدننا العشوائية الحالية التي نريد تجديدها وتغيير بنائها علي أسس متطورة.
وأدعو وزارتي الخارجية والتعاون الدولي, بما تملكان من اتصالات مع جهات دولية وعالمية مهتمة بإعادة بناء المدن والحفاظ علي تراثها للعمل معا في هذا الأمر, فمنطقة وسط المدينة شاركت في بنائها في الماضي شركات أوروبية وبيوت خبرة حديثة.
فلماذا لا تجري مؤسستنا الدبلوماسية اتصالات لاستقدام بيوت خبرة ومؤسسات تمويلية دولية تقدم أفكارا جديدة للتمويل, يشارك فيها المواطنون العاديون, وتصدر سندات للشركات والمؤسسات ولأصحاب الأراضي تحفظ حقوقهم وتعطيهم مزايا للسكن والعمل في المنطقة بعد تطويرها, لأن أنماط العمل الحديثة والأساليب المتطورة تستطيع إنجاز الأعمال الكبيرة.