من يستطيع أن يتنفس؟!

الأثنين 16 من شوال 1441 هــ
العدد 48762
استغاثة أطلقها أمريكى من أصول إفريقية، وهو يحتضر، (جورج فلويد)، لرجل شرطة أبيض، وهو يخنقه، فى مايو 2020، بحجة تطبيق القانون، لم يسمعها الشرطى، وهو أقرب ما يكون إليه، فى حين سمعها العالم، فى كل مكان حوله، وفى لحظة إطلاقها، وكأنها تغريدة على موقع التواصل الاجتماعى (تويتر)، أو بكل وسائل الاتصال، حديثها وقديمها معا، أو صيحة طائر راحل، تنبأ بحال العالم بعده، فى كل مكان قبل رحيله، وردد الجميع معه، أيضا، ليس فى أمريكا وحدها، بل فى العالم كله، شرقا وغربا: من يستطيع أن يتنفس؟!.
لقد شعر الجميع بوطأة الحدث، ومعنى النداء الأخير للأمريكى الأسود (عدم القدرة على التنفس) ليس رمزيا فقط، بل مادى، وواقعى، عاشه القتيل كما نعيشه جميعا، كلُ فى مكانه كذلك، فنحن جميعا لم نخرج بعد، بل نعيش تحت وطأة زمن كورونا، وكل منا يعانى معاناة من حولنا، فى عدم القدرة على التنفس، أو الخوف من تسرب المرض اللعين، الذى يضرب قدرة التنفس الإنسانى، ويقتل صاحبه فورا بفيروس صغير غير مرئى أو معروف، ومازال تحت الفحص، لا يفرق فى البحث عن ضحاياه بين أسود وأبيض، غنى وفقير، قوى وضعيف.. كلهم تحت المقصلة، وأمام اختبار واحد.
إن الفيروس حول المدن إلى أشباح، وحجز الناس فى بيوتهم، لأول مرة فى التاريخ الإنسانى، فواقع الحياة، وأحداثها، ومرارتها، أغرب من الخيال، وأعمق، بل أقوى من الأساطير، وكأنما العالم، الذى كان ينتظر مؤلفا عبقريا، أو مخرجا عالميا، يُقدم من رحم المآسى الإنسانية، التى نعيشها، رؤيته، كما تعودنا سابقا، يُخرج لنا من رحم ما نعيش أسطورة جديدة مُسطرةً، تلعب بخيالنا، وتلهب عقولنا بعض الوقت، فجاءت الأحداث تسبق العبقرية والإبداع، بل المؤامرة المحبوكة، لتجسد ما نعيشه حاليا، وما نتطلع إليه مستقبلا، فحدثت على رصيف شارع فى مينيابوليس، إحدى مدن أمريكا، ترجمة، أو صورة حقيقية، أغرب من كل الخيالات، أخذ كل من يمثلها (المريض الذى يبحث عن الصحة، والخائف الذى ينتظر المرض) يتنفس وكأنه يمكن أن يُخّزن الهواء لوقت الحاجة.
وقد انطلق الكل فى أمريكا والعالم، خاصة الغربى منه، غاضبا على رحيل إنسان أسود بعنف عنصرى بغيض، هل لعودة العنصرية المقيتة إلى مجتمعهم؟.. هل غضبا من الرئيس الأمريكى الحالى ترامب، الذى جاء للحكم كرد فعل لانتخاب رئيس أمريكى أسود سابق (أوباما)، لأول مرة لدورتين متتاليتين، وكأنما أهل أمريكا الأوائل (الأنجلو ساكسون) ينتقمون من الأقلية السوداء الإفريقية، التى استطاعت، وتجرأت أن تنتخب رئيسا أسود، بعد 5 عقود على قيام أمريكا، وسيظل الرئيسان رقما 44 و45 (أوباما وترامب) فى تاريخ أمريكا يقدمان للعقل الأمريكى والعالمى صورة مختلفة (لم تكن فى حسبانهم من قبل) عمن قاد ويقود الإمبراطورية العظمى، التى تحكم عالمنا الآن.
لقد أخرجت الأزمة الحالية الرئيس ترامب، والمرشح، أو المنافس، فى إشارة رمزية، من كنيسة مختلفة، يحملان الإنجيل، كأنما يقولان نحن خرجنا من أمريكا القديمة إلى دولة أخرى، ليس فى صراعاتها العالمية فقط، ولكن فى أوضاعها الداخلية كذلك، بل إنهما يقولان إن الدستور الحالى أصبح قماشة قديمة لا تتحملنا.
وفى اعتقادى أن صورة أمريكا الحالية والقديمة قد لا تبرح أذهاننا طويلا، سواء ما يحدث على الأرض، وكل جديد، بل غريب نشهده، أو ما يحدث حولنا من تطورات، وسياسات، بل لغة مختلفة، على لسان قادتها، ويحتمل تأويلات متعددة، تعتبر أولويات تكشف عن صورة قد لا نتوقعها، أو حتى نتخيلها، نحو المستقبل، ووضع هذه الإمبراطورية الحالية، وعلاقتها بعالمها.
من المهم أن نعى أن كل ما سبق قد يشغلنا، لكن الأهم الآن أن يفكر كل واحد منا، فى كل منطقة فى عالمنا، فى مستقبله، وفى نفسه، فتلك حال تقول إن هناك عالما جديدا يتكون الآن، لكى تكون كل الأوراق موجودة خلف المحيطين (الهادى والأطلنطي).
بل إن هناك مساحات مختلفة تعود إلى الأرض القديمة، حول الأنهار والبحار القديمة، اقرأوا أمريكا وحللوها ما شاء لكم التحليل، لكن الأهم لكم الآن أن فك الارتباط حول أطراف الإمبراطورية قد حدث، وأصبح لكل منكم رأى، أو دور مستقبلا، وفكروا فى أنفسكم، ولا تجعلوا اللحظة الأمريكية المفعمة بالتطورات العميقة تتسبب فى تفريقكم.
إننا فى عالمنا نعانى جميعا فعلا عدم القدرة على التنفس، وصراعاتنا قد تكون محتدمة، ولن نجد ملاذا نحتمى فيه، فنحن فى منطقتنا العربية مقبلون على صراعات فى البحر المتوسط، فجرها تاريخ سقوط الإمبراطورية العثمانية، التى تحاول إعادة إنتاج نفسها بعد هذه المتغيرات، بل إن هناك الأوروبيين يحلون مشكلات حديثة بأفكار قديمة، ومعهم الروس المنقسمون فى صراعاتنا، وأصبحت لهم كلمة عليا، وهناك من يحاول أن يخرج من حروب الأعوام العشرين الماضية، وهناك فى حوض النيل صراعات تتفجر حول المياه، وحكام يحاولون تفجير صراعات ومخاوف قديمة عفى عليها الزمن.
إن صيحة الأمريكى الأسود يتردد صداها: نحن جميعا نريد أن نتنفس ونستمر فى الحياة، فهل ستجد تلك البشرية من يسمع هذا الصوت أو الصدى، ويحاول أن يرمم تلك التصدعات، أم أن الأصوات لن تُسمع، وستنجرف الحياة الإنسانية فى مسار الصراعات والحروب القديمة والمتجددة، ولن تكون هناك أمم متحدة، ولا ولايات متحدة؟
إن الكل يحاول أن يحيا، ويعيد إنتاج عالم جديد، ومنطقتنا العربية تحاول النجاة، بينما جيرانها يرون فيها فراغا، أو منطقة لا تجد نفسها، وكل منهم يطرح نفسه زعيما لها، برؤية، وفكر عدائى، وعنصرى، وقديم، بينما القائد الفعلى فيها يتريث، ويراقب الموقف، فالمسئولية كبيرة، وقد تكون الفرصة القادمة له، وليس للمقامرين والمتآمرين، الذين يزجون بالمنطقة فى أتون صراعات وحروب لا يعلم نهايتها إلا الله