أبعاد الغضب فى المشهد الفرنسى

المشهد الفرنسى فى نهاية 2018، والباريسى، خاصة حول قوس النصر، أرسل إلى كل العالم رسالة، تحمل شيئا من الخوف،أن أوروبا، القارة القديمة، أو البلاد التى استعمرتنا فى السابق، سواء كنا نحبها أو نكرهها، أو نصب عليها الغضب أحيانا، ونحملها مسئوليات كثيرة، لما نحن فيه هى مصدر إلهام، ومركز التعليم فى كل شيء، وبداية الحضارة الغربية التى يعيشها، ويتنفسها عالم اليوم، وتظل أوروبا مصدر المعلومات، أو الكتاب الذى تقرأه أمريكا والقوى العظمى أولا، فخطوطها متصلة، كالمياه الجوفية، مع كل الأرض، وتظل فرنسا منارة أوروبا، كما أن بريطانيا عضلات وفكرالقارة القوى، أما ألمانيا فهى خزينة أوروبا، وعندما تمر البلاد الثلاثة بمراحل، لا أقول انهيارات، حادة وشديدة التعرجات، وتنبئ بمتغيرات كبرى، فإن علينا جميعا أن نفتح أعيننا عليهم، ليس لتقليدهم، أو نقل مصطلحاتنا، وظروفنا الداخلية، بتبسيط مخل، إلى هناك، بل علينا أن نسبر الغور، لنعرف ما يحدث، وما هى تأثيراته علينا؟ أما أن نطلق عليهم، كما أطلقوا علينا، مصطلحات الربيع، والخريف، والشتاء، والصيف الحار، فسنكون قد وقعنا فى الخطأ الجسيم، لأنهم، بلادا، وشعوبا، ودولا، تجاوزوا هذه المراحل بأحقاب، وليس سنوات، فهم ليسوا الشرق الأوسط، كما أنهم ليسوا مثل شرق أوروبا، بعد تفكك وتحلل الاتحاد السوفيتى، وإمبراطوريته الأوروبية والآسيوية، وهم ليسوا فى ثورات برتقالية أو صفراء أو حمراء، رغم أنهم يرتدون السترات الصفراء، ممثلين طبقة العمال، فهم لا يبحثون عن هوية، أو يمثلون فئة، أو طبقة اجتماعية.
إنهم نوع جديد فى هذا العالم، يعبر عن نفسه بأساليب مختلفة، منها ما يمثل أوروبا، أى التظاهر السلمى، ومنها ما هو فوضى، ينقل أساليب أخرى، انتشرت فى عالمنا الثالث، ولكنها جميعا أساليب تعبير، تستخدم لغة جديدة، قد تسود كل العالم لحقبة من الزمن، إلى أن تستقر أمور هذا العالم الذى يتغير بالكامل، ويصبح جديدا فى كل شيء، وعلينا أن نقرأه بلغة وتفكير مختلفين. أن فرنسا فى اضطراباتها الجديدة نسخة 2018 مختلفة عن كل ثوراتها، أو متغيراتها السابقة، فهى بلاد لها تاريخ طويل، فى الغضب، والثورات، والاحتجاجات منذ الثورة الفرنسية. ثلاث ثورات قديمة، جرت فى أعوام 1789، 1830، 1848 ثم ثورات 1968، ومنها انطلقت إلى كل أوروبا، والآن على ما يبدو أن ما يحدث هناك سينطلق، ليس إلى أوروبا، بل إلى كل العالم. إنها ليست ثورة على الرئيس الفرنسى ماكرون الذى لم يمر على انتخابه أكثر من عام ونصف العام، وجاء من صندوق مختلف، ومن حزب جديد لا يمثل يمينا أو يسارا قديما، ويحمل سمات الديجولية فى شخص لا يشبه ديجول على الإطلاق، فهوت ليس عسكريا، ولم يقاتل فى حروب عالمية، وليس قوى البنية، شكلا أو موضوعا، وليس صاحب تاريخ عريض، مدنيا أو عسكريا، كما أنها اضطرابات لا تحمل سمت الفقراء، رغم أنها ضد ارتفاع أسعار الوقود، فالذين قاموا بها من طبقة المستهلكين متوسطى الحال، ويعانون انخفاض النمو والبطالة، كما أنهم لا يعترضون على التغير المناخى، كما تحدث الرئيس الأمريكى ترامب، ولا يهتمون به، وكل مركز اهتمامهم هو قدرتهم الشرائية والاستهلاكية، وتغطية احتياجات أسرهم.
إن ما يحدث فى فرنسا ليس صراعا حزبيا، أو عقائديا، أو فكريا، أو حتى طبقيا، كما كان يحدث فى الماضى، كما أنه ليس صراعا على أو حول الرئيس، رغم أنهم هتفوا بسقوطه ورحيله وطالبوا بانتخابات جديدة، كما أن الرئيس لم ينسحب أمام المتظاهرين السلميين أو الفوضويين، رغم أنه أجّل قراراته، أو جمدها بعض الوقت، وقد يكون غير طريقته فى تطبيقها. ما يحدث فى فرنسا ليس صراعا لطبقة وسطى، تريد المزيد من الرفاهة، أو تواجه أزمة اقتصادية، لكنه تعبير عن قوى جديدة، أو خط بارز جديد فى أوروبا ، يريد أن يقول كلمة جديدة فى نظم الحكم، فلم تعد الليبرالية، أرض الديمقراطية الموجودة فى فرنسا وأوروبا، تكفيه، فهو يبحث عن شىء آخر، حتى لو أدى به الأمر إلى تحطيم ما تحت يديه من حياة، ورفاهية، وخدمات.. فهل يمكن أن نعرف الاتجاهات الجديدة فى هذا العالم الجديد؟ وقد استطاعت بائعة تجميل فى إحدى ضواحى باريس أن تطلق شرارته؟ وهى لم تعمل فى السياسة من قبل، وترفض التواصل مع الأحزاب والمنظمات والنقابات، فهل سيكون لحركة بريسيلا لودوسكى، التى حشدت 800 ألف مشارك معها، فى أكثر من 9 مواقع فرنسية، وأشعلت ثورة شلت حركة الرئيس ماكرون لباقى فترته الرئاسية، تداعيات أخرى فى اتحاد فرنسا وأوروبا والعالم؟
لا يمكن الجزم بالإجابة، فحركة الشعوب فى عالم اليوم خارج كل التوقعات، وعلماء السياسة والأحزاب أصبحوا خارج الخدمة، لعلهم يغيرون ويراجعون نظرياتهم، حتى نستطيع أن نستشرف صورة العالم الذى نعيشه، ونعرف أكثر، كيف تفكر الجموع البشرية المتنافرة، وما هو تخطيطها للمستقبل، بعد أن نعرف المعانى الغائبة وراء غضب الفرنسيين والإنجليز والأوروبيين عموما.. هل هو التمرد الذى يسبق عاصفة قيام أوروبا جديدة مع وحداتها، وأمام المواجهة المحتدمة بين الصين وأمريكا وروسيا، كل على حدة، وهل أصبح لأوروبا كلمة أخرى؟ تساؤلات عديدة تحتاج إلى عقول مختلفة، لتشرح لنا ما يحدث، لعلنا نستشرف صورة، وحركة الجماهير فى عالمنا المعاصر.