أول الكلام اغتصاب العالم

نحن العرب الآن أمام ظاهرة غريبة ومختلفة.. فنحن نواجه المتغيرات الإقليمية والعالمية، بلغاتنا وأفكارنا القديمة، بل بأدواتنا التقليدية، ونطرح نفس الأوراق والتساؤلات.. ومازالت عقول مثقفينا وسياسيينا.. تتحدث بالليل والنهار.. بنفس اللغة التى تعودنا عليها بلا تغيير. بل إننا لا ندرس على الطبيعة.. موقفنا الحالى فى كل الاتجاهات بروح نقدية.. لأننا مصممون على فرض أجندة قديمة ولغة بالية على عالم متغير، يتجاوز فيه التغيير حدود الواقع، ولا ينتظرنا حتى نفكر، ونضع تصورا معقولا للموقف يتناسب مع واقع ما نعيشه.. ويتعامل مع العصر بلغته وبمناخه.. وليس هذا قصورا فى العقل العربى.. فنحن فى بلادنا نملك جميعا عقولا كبيرة على كل المستويات.. العلمية والفكرية والثقافية والسياسية، لكن كلها معطلة عن العمل.. وإن كان مسموحا لها التفكير غير المؤثر، ويطلقون أفكارهم ومقالاتهم هنا وهناك.. لكنهم هناك دائما متخذون للقرار..
حدث بينهم وبين التفكير انفصال كامل.. ومن يملكون القرار يستكثرون على أنفسهم الحوار، وخطوطهم دائما أفقية، لا ترى أمامها إلا مصالح ضيقة وتفكير قديم تجاوزه الزمن.. لكنهم لا يسمعون إلا أصواتهم دائما.. والمؤسسات الحاكمة.. لها منظورها، وتأخذ من التطورات العالمية قشورها، ونلعب جميعا من أرضية الهزيمة.. ولذلك فتأتى النتائج بما لا نشتهى.. وفجأة نصب كل لعناتنا على العالم الذى لا يفهمنا.. وبالقطع فهو لا يفهمنا، وهو غير مطالب بذلك.. بما ينعكس على شعوبنا، ويؤدى إلى حالة من انعدام الوزن.. وهو شعور غير لذيذ للشعوب التى حرمت طويلا من حقوقها ومصالحها، وتترقب عصرا مختلفا، بل ومشاركة فى تطورات ترى أنها من حقها أن تعيشها.. وأن تتكلم بلغة مختلفة.
هذا ليس هجوما على أوضاعنا.. فليس فى نيتى أن أهاجم، لكنه محاولة للخروج من أزمة تنتابنى، والشعور بعجزى عن مواجهتها، أو أن أفهمها.. وخطورة هذا الشعور أننى أرى العقل العربى عاجزا عن متابعتها وأستخرج من ثناياها ما يمكننى من تجاوز هزائمنا، والتعامل مع العالم المسيطر بلغته، وعكس إمكاناتنا على مكانتنا.. إننى أرى الأزمات تلاحق المنطقة العربية، بل إن حلقاتها تزداد إحكاما وإغلاقا، والخطر لا يكمن فى ملاحقة الأزمات، لكن فى عدم القدرة على تشخيصها ومواجهتها، وتركز المواجهة على الكلمات، ونتصور أننا نواجه القوة بالكلمات.. وعندما نفشل، ففى هذه الحالة فهو فشل طبيعى.. لأن المواجهة فى غير مكانها.. تصيب بالدوار، ونصب جام غضبنا على الآخرين، وهم بالقطع يضحكون من سذاجتنا وسطحيتنا، بل وبلاغتنا البالية.
نحن جميعا نواجه تحديا حضاريا خطيرا، يستهدف مقدساتنا وديننا ولغتنا.. العالم يسعى للتعددية، ويفتح الأبواب الواسعة للديمقراطية.. ونحن نتجه إلى الخلف يسيطر علينا الفكر الواحد.. ولا يتسع الحوار للجميع، لكنه يقتصر على فريق وصل إلى الحكمة عن طريق السلطة، وبعد الجميع عنها.. ولم يصبح أمامنا أمل إلا بفتح الباب أمام الديمقراطية، وفهم لغتها، بما يساعدنا إلى حد كبير فى حشد كل العقول والمفكرين والمثقفين حول قضايانا، وتفتح الديمقراطية أمامنا الكثير من الآمال الواقعية، فى تجاوز مشاكلنا، والأهم أنها تنهى غربة الكثيرين فى أوطانهم، ويحقق لنا إحساسا بالوحدة، ويعيد اللحمة لأطراف المجتمع، ويشعر الوطن أنه يستوعب جميع أبنائه.. إن الوطن للجميع، وليس لفريق وصل إلى السلطة ويسمع صوته فقط.. وقد تحول صراعا مع إسرائيل إلى تنافس حضارى.. وإذا ظللنا ندير الصراع معها بالعقلية القديمة واللغة البالية، فلن نكسب وستضعنا كل أوراق الصراع فى مأزق حقيقى لا يمكن تجاوزه.. لكن علينا أن نتجاوز أنماط الصراع السابق.. إلى واقع جديد.. يكشف أوراق اللعب أمام العالم،
ونشرح لهم كيف أن إسرائيل تغتصب العالم بالقوة.. وفى حالة كسب الرأى العام العالمى.. وتعاطفه معنا، سنضع الحكومات المؤيدة للسياسات الإسرائيلية نفسها فى مأزق ضخم.. وينتقل المأزق العربى إلى إسرائيل.. وننتقل إلى واقع جديد.. يحقق المصالح العربية.. وهذا يفرض لغة مختلفة علينا أن نتحدث بها.. سنفرض أن يتحدث العرب لغة واحدة.. متجاوزين الخصوصيات المصرية والخليجية والشامية والمغربية.. إلى لغة عربية تضع إسرائيل فى مكان المخالف والمعادى للواقع العالمى الجديد الباحث عن السلام والاستقرار.. وفى دفع الاقتصاد، فإن لغة العرب القديمة هى البارزة، فنحن ننافس بعضنا البعض، ونقف فى محاور ضد مصالحنا، بل إننا لا نفهم لغة السوق الحالية.. التى تبحث عن السوق الكبيرة..
بل إن الأغنياء العرب »يتحزبون« ويرددون أن مصالحهم بعيدة عن الفقراء، »ويتخندقون«.. وعليهم الآن أن يبحثوا عن خندق واحد يعصمهم من فيضان قادم من العالم القوى.. سوف يزيحهم جميعا من مراكز القوة، التى حصلوا عليها لأسباب مختلفة.. لم يكن من بينها العمل الجدى، وبناء نظام اقتصادى عصرى قادر على المنافسة وحماية مصالح الشعوب العربية بواقعية تتناسب مع نظام اقتصادى يتغير ويتطور بسرعة فائقة..
بل إننا فى نظامنا التعليمى والثقافى مازلنا بعيدين عن العصر، ونربى أولادنا فى مدارس قديمة، وسط شعارات لا تصلح لبناء عقل قادر على المنافسة والوجود بفعالية على مسرح حياة وقيم مختلفة ومتغيرة ومتبدلة.
ومازالت طاقتنا مبددة وضائعة، رغم أنها قليلة ولا تستطيع أن تصمد للمنافسة العالمية.. لكننا وبالإضافة إلى ما سبق نبددها فى صراعات جزئية بل ووهمية، تعجزنا عن رؤية العالم بمتغيرات، ولغة واقعه المختلف، هل نأمل أو نطمع أن يعترف أولو الرأى فينا وأصحاب القرار بأنهم غير قادرين على مواجهة العصر، وأن تجاربهم السابقة قد ثبت فشلها، أن يتواضعوا قليلا ويطلبوا مشاركة الجميع فى الرأى، وعلينا أن نتعلم أن نواجه صعوباتنا ومشاكلنا واضطراباتنا بلغة جديدة وظروف متغيرة.. وبتعاون وروح الفريق.. وأنه ليس هناك رأى أو حكمة أو حزب يملك الحكمة والصواب وحده، لكن الأغلبية الغائبة قادرة ـ لو أحسن الاستفادة منها ـ أن تواجه وتخرج وتبرز أفضل ما فيها، وأن تتنافس وتعايش عصرها ـ وأن نعايش عصرنا بالحكمة.. وليس بالقوة.