مقالات الأهرام العربى

ليس بالدموع أجعلها أيقونة

تساءلت مع نفسى ومع الآخرين، هل نستطيع أن نخرج باستنتاج، أن لغة الحوار المتبادلة بيننا الآن، تعكس تفكيرنا، ورؤيتنا للواقع، وبالتالى نستشف منها المستقبل أ؟

أم أن »اللغة« السائدة وما تطرحه فى »الميديا« باختلاف أنواعها، تخاصم الواقع، وتسير فى خطين متوازيين، وأنك إذا أردت أن تفهم منطقتنا وصعوباتها، فعليكن تستشف ذلك بنفسك من الجلسات الخاصة، ولا تجتهد كثيرا فى تحليل مضمون ما يكتب وما يذاع، ويشاهد، فقد تعودنا فى سنوات القهر وغياب الحرية ـ حتى لا ندفع ثمن ما نقول ـ أن تكون لنا لغتان لغة نكتبها ونقولها ونشاهدها، وأخرى نتعامل بها وتشكل اجتهاداتنا، وأن من يصدق ما نقول، يخرج بتصور خاطىء تماما، لا يتناسب مع الواقع والرؤى المستقبلية.

أرجو أن نخرج من هذه المقدمة الفلسفية ـ لكى نسبر معا غور رؤية كونتها من اجتهادات زملاء، حاورتهم على البعد من خلال ما يكتبون ـ ولم تجمعنى بهم مائدة مستديرة، أو »سلك« تليفون، فقد لمست أن التطرف والتشاؤم وجلد الذات وتعذيبها، يسود كلما تحاورنا حول واقعنا السياسى والاجتماعى والثقافى، ليس بسبب تذكر نكبة فلسطين وأزمة السلام فقط، لكن اللغة كلها كانت بحثا عن الدموع، وسعيا وراء إطفاء الشموع، وكأن الإنسان فى عالمنا عندما يتباكى يغسل يديه ويقول هل بلغت؟، فعليكم جميعا أن تشهدوا أننى فعلت، ولم يعد مطلوبا منى شىء، و عليكم ـ ولا أعرف على من بالتحديد ـ البحث عن تغيير الواقع، وصنع مستقبل أفضل، وتلك سر نكبتنا، وليست إسرائيل التى زرعت فى منطقتنا و هزمتنا،

بالرغم من أن آخر معاركنا معها كانت انتصارا بكل المقاييس عليها وعلى النظام العالمى الذى يحميها ويقف معها فى كل معاركها السياسية، النكبة هى فى تكريس و اقع الخوف وعدم القدرة على تجاوز النكسة والهزيمة، وإلا ماذا نقول؟ لكاتب يهيىء نفسه لدمعة ثالثة على مستقبل لم يره، بعد ذرف دمعتين على الماضى والحاضر، فأخافنى عندما سألت زميلا آخر عن المستقبل، فأجابنى انظر إلى حاضره لترى مستقبله، ماذا يفعل الآن، فهو يبكى، فلا يرى لنفسه ولمجتمعه حاضرا أو مستقبلا، وآخر كان يحدثنا بحماس عن ماضى الهزائم، ويحكى قصصا للتسلية تظهر أن حكيم الأمة مازال محاصرا بالضوء ومحور التساؤل، وعند الحديث عن الحاضر والمستقبل، لم يجد شيئا يقوله، بل شاركنا الحديث بالتساؤلات التى تكرس لعبة »التغييب« وإبعاد الحقائق، وتبرز متاهة الفشل، رغم أنه طالبنا بأن نبنى علاقاتنا من مركز قوة، لأننا انتصرنا فى حرب ٣٧، ولم نهزم فقط فى ٧٦.

وبالرغم من أننى لا أريد الحديث فى السياسة، فقد بحثت عن استراحة، محاولا إبراز فكرة محددة، قد تبعث لنا بضوء جديد، يجعلنا نفكر بروح مختلفة، وأن نخرج من عصر الازدواجية بين التفكير والعمل، أو بين التفكير والقناعات، وأن نجعل لغة خطابنا هى لغة تفكيرنا وقناعاتنا، فى محاولة لكى نعيش العالم الجديد، الذى نتكلم ونكتب ونبشر به.

ليس بالخوف تحيا الشعوب، صحيح أن »نزار قبانى« الشاعر الموهوب قد حاول أن يدفع شعوبنا لليقظة بكلمات حادة، لكنه هو نفسه الذى نشر وقال

أكتب.. كى أنقذ من أحبها

من مدن اللاشعر واللاحب والإحباط والكآبة

أكتب.. كى أجعلها رسولة

أكتب.. كى أجعلها أيقونة

أكتب.. كى أجعلها سحابة

وإذا كان الشاعر من حقه أن يصرخ ويكتب كلاما »موجوعا«، فإن جمال كلماته يشفع له، فالمفكرون والكتاب والسياسيون عليهم أن يغيروا الواقع، ولا يصادرون حق الأجيال فى التغيير، وصنع واقع أجمل مما صنعوا فى الماضى، وليس من حق جيل صنع النكبة وشارك فيها، وبرر الهزائم، وكرس أكاذيب عن الأسباب التى كانت وراء ذلك، أن يصادر حق الأجيال الحالية والقادمة فى التغيير، وصنع واقع جديد.

بالرغم من أن عالمنا العربى يواجه صعوبات عديدة، ومشاكل كبيرة، فإننى أعتقد أنه يحاول أن يخرج منها ويصنع عالما جديدا، وأن يشارك فى التغيير ولا يستمر فى البكاء والخوف من المستقبل.

وإلا.. ماذا تقولون الآن فى رجل رحل عن عالمنا، لكنه صنع قرارين مازال تأثيرهما له فعل السحر فى واقعنا قرار الحرب فى ظروف صعبة، وواقع مستحيل أن يفرز نصرا، لكنه استند على قدرة الإنسان العربى وقت الشدائد، فصنع نصرا مؤزرا، بنى عليه قرارا آخر طالب فيه العالم بأن يعطى العرب فرصة للبناء والاستقرار والخروج من نفق التخلف المظلم الذى صنع الهزيمة، وكرس النكبة فى الشرق الأوسط، وطالب بالسلام وبدأ سلسلة استرداد الحقوق التى نواصلها الآن، وسوف نصل إلى حقوقنا، فقد بدأنا خطوة الألف ميل، ولن نصل بسهولة، لكن بإصرار وعمل مستمر.

من هنا أدركت مصر بزعامة مبارك ضرورة تغيير الواقع المصرى، فبنت دولة حديثة تجاوزت فى بنائها كل سلبيات الماضى، وتزعمت عالمها العربى دفاعا عن الحق الفلسطينى، وحافظت على استقرار المنطقة العربية، وبنت مصر الحديثة التى تتكلم الآن بقوة فى المحافل العربية والدولية، لأنه يمثل واقعا مختلفا.

إن الذين يتحدثون فى ذكرى النكبة عليهم أن يتذكروا أن كل المحاولات العربية للخروج من التخلف وبناء دولة عصرية، ودخول العصر الجديد، والتحدث بلغة مختلفة، يمثل مواجهة للنكبة، وليس بالصراع تحيا الأمم، لكن بالبناء والعمل المستمر والدءوب لمواجهة تراكمات الماضى، وعناصر التخلف الموروثة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى