انفجارات الرياض واسطنبول.. المغزي والمعني

في مشاهد مأساوية راح ضحيتها المئات في اسطنبول والرياض, قام بها الإرهاب المتشح بالثياب الإسلامية, والمختطف للقضية الفلسطينية, وأخيرا وجد أمامه وقودا آخر يوميا أكثر تأثيرا وأشد إيلاما للجسم العربي والإسلامي هو احتلال العراق, ليغذي المناخ الإقليمي المضطرب, ويزيده سوداوية وكآبة, ويمارس دوره القديم والمخيف والغامض في إعاقة تقدم دول الشرق الأوسط نحو التغيير السياسي والاقتصادي.
دعونا نقول بكل صراحة دون خوف من هذا التيار المتطرف والأصولي المتشدد سواء أكان دينيا أم سياسيا, إننا ندرك أن إمكاناتنا وقدراتنا المحلية ــ اقتصادية أو سياسية ــ لا تلبي احتياجاتنا وطموحاتنا نحو التقدم الاقتصادي, ولانملك كامل الإمكانات لبناء هياكل سياسية حديثة, وأنه بدون مساعدات خارجية تتعاون معها نخب سياسية ومنظمات محلية, متخلصة من التطرف بكل أبعاده, وعناصر التهييج السياسي بكل تداعياته ومتحلية بأخلاق وقيم حقيقية, تنبذ الفساد بكل أشكاله, وتبتعد عن عناصر نفاق جماهير غير مدركة لمصالحها الحقيقية راهنا ومستقبلا, والتي تعيش في ظلال وتحت وطأة كوارث اقتصادية داخلية طاحنة, وأزمات اجتماعية خانقة وخوف دفين من عناصر خارجية عمرها أكثر من مئات السنين, وموروث ثقافي ليس من السهل تجاوزه, ناتج عن صراعات قديمة ومتجددة, كلها متأصلة في الضمير الوطني, ومن السهل إعادة إحيائها واستثارتها, لكي توقف حركتنا إلي الأمام أو تشيع مناخا من الفوضي والإثارة, بحيث لا يمكن لأي حركة إصلاحية حقيقية في أي مجال أن تعيش في ظله.
من هنا ولأن القضايا واضحة, وكل شيء ماثل للعيان, ونحن نعيش في مجتمع مفتوح, أصبح فيه من الصعب أن تغيب الحقائق عن الناس, فلا مفر من أن يكون هدفنا ليس بناء نخب فقط تقود عملية التطور والنمو والتصحيح داخل مجتمعاتنا, ولكننا نطمح إلي بناء رأي عام مستنير وقوي, ويدرك كل الحقائق بوضوح بدون خوف أو تردد وهو الذي يقود حركة التغيير والتطور في مصر, متجاوزا النخب التي تتعثر في الفساد أو المصالح الضيقة.
ولأننا في مصر نملك تجربتين قويتين لهما طبيعة خاصة, لم تمر بهما دول كثيرة وهما تشكلان معا ملامح التجربة المصرية القوية والرائدة في التغيير والحركة إلي الأمام والتي لم تتملق رغبات قديمة ومكبوتة للجماهير.
التجربة الأولي كشفت الإرهاب المتشح بالإسلام, وفضحت أباطيل أصحابه من دعاة العنف بوجوههم القبيحة حتي إن المسلم العادي الآن, يرفض أشكالهم مهما تلونت, ويبغضها, بل يعرف أنهم منافقون, يتسترون بالدين, والمعركة الداخلية مستمرة لاقتلاع آخر جذورهم, وتصحيح كامل الأوضاع, لكيلا يستطيعوا في المستقبل سرقة الوطن واستغلال مشاعر البسطاء الدينية التي تشكل جوهر معدنهم الديني الأصيل, وأصبح هناك فصل كامل بين حقائق الدين, وأكاذيب مستغليه الذين يريدونه ماركة سياسية أو قالبا اقتصاديا, حتي إن هذه الجماعات نفسها المريضة والمعطوبة فكريا وثقافيا, أجبرت أمام الرفض الشعبي, والمقاومة الحقيقية لنياتها البغيضة علي أن تعيد النظر في أفكارها السقيمة وترتب أوضاعها اتساقا مع رأي الأغلبية, ومع صحيح الدين, ولم تستطع هذه الجماعات رغم قدراتها التنظيمية الفائقة أن تبني مؤسسة سياسية أو شركة اقتصادية, فهي لا تملك مؤهلات العمل حسب طبيعة وأشكال الحياة السياسية والاقتصادية المعاصرة, فسرقت شكل الدين دون جوهره لتسبغ شرعية مخادعة علي أسلوبها في العمل أو الكسب, من هنا أسقطت التجربة المصرية في طريقها كل الأحزاب والشركات التي تدثرت بالعباءة الدينية ولا يمكن لأصحاب هذه الرؤي القديمة أن يبرروا هزيمتهم بأن الحكومة وقفت ضدهم, وهذه حقيقة, لكن الأكثر دقة أن أي حكومة مهما بلغت قوتها وشأنها لا تستطيع ولا من مصلحتها أن تقف ضد جماعة صحيحة أو شركة نظيفة, لكن السقوط والغياب يكون دائما وراءه رأي عام ومناخ رافض لها, فانتصار المصريين علي الإرهاب وجماعات التطرف أو شركات توظيف الأموال, ليس مرده ــ حكومة فقط ــ ولكن أيضا رأي عام صحيح, وقف مع حكومته لإزاحتهم, رغم التكلفة العالية, ولكن لأن جسم وعقل المجتمع المصري صحي, رفض أن يتعايش أو يتكيف مع هذا المرض اللعين.
أما التجربة الثانية, فتجسدت في قدرة المصريين علي توطين فكرة السلام الإقليمي, واستقبال الرؤية الصحيحة التي قدمتها الحكومة المصرية في منتصف السبعينيات لحل الصراع العربي ــ الإسرائيلي بالتفاوض, وبرغم صعوبة التفاوض ومرارته, تقبله الرأي العام متجاوزا النخب الثقافية والسياسية التي رفضته, وساند الحكومة في إتمام هذه السياسة وتهيئة المناخ لإنجاحها, والتي نجحت جزئيا, ومازالت لم تستكمل حلقاتها بعد, لأسباب إقليمية وعالمية أهمها ما حدث في إسرائيل بعد اغتيال رابين, وضعف ــ وأحيانا غياب ــ الدور الأمريكي عن استكمال ما وعد به من النصح للإسرائيليين, والرعاية للسلام الإقليمي, لكن رغم هذا كله, ولأن جوهر سياسة السلام والتفاوض حقيقي وقوي, فالمصريون ــ حكومة ورأيا عاما ــ متمسكون به ويواصلون دعمها بوعي وإدراك عميقين بأنها الطريق الصحيح بل والوحيد لإنقاذ المنطقة وعودة الحق العادل إلي أصحابه.
وتجيء الأيام والأحداث لتكشف للمصريين وقياداتهم صحة مساراتهم ورؤاهم وإدارتهم, سواء لمعركة الإرهاب والتطرف أو السلام, وهو ما أوضحته الضربات الأخيرة للإرهابيين, التي جاءت في أهم منطقتين تعملان للإصلاح والتطوير والتقدم والتغيير سواء في اسطنبول أو الرياض, ففي الأولي يعيدون النظر في سياسة الكمالية ويتفهمون قضية معايشة الدين الإسلامي للمتغيرات الإقليمية والعالمية, فالحكومة التركية الآن مختلفة ومتغيرة, فهم إسلاميون مستنيرون, لا يستغلون الدين كماركة سياسية, ولكنهم يوقرونه في قلوبهم, ويمارسونه في حياتهم ولا يغيبون صحيح دينهم, ونجحوا في فرضه داخليا علي مؤسسة عسكرية قديمة, رفضت حتي أن يكون موجودا علي مسرح الحياة, فجاءت الضربات والهجمات العصبية, لتربك تركيا الجديدة والمتغيرة والصحيحة, وهكذا كان الأمر في الرياض التي تصحح أمورها, وتتكيف داخليا وخارجيا.
إن هذه الهجمات تشير إلي أن هناك قوي توظف هذا التيار المتطرف, لكي تقف ضد التغيير والإصلاح الحقيقي في بلادنا ومنطقتنا وعالمنا, لأن ذات هذه القوي هي التي تضرب كل عناصر التصحيح وتطوير المجتمعات الإسلامية والعربية, فهم يركزون دائما علي الاقتصاد والسياسة, يضربون المؤسسات التي تجلب الأموال, يجهضون السياسات الصحيحة لإقامة المجتمعات التي تبني البنية الأساسية للنظام الديمقراطي أو التغيير الإقليمي نحو السلام.
فهل تدرك النخب مخاطر الفساد أم يصحو الرأي العام من نوم طويل, ويقود بنفسه التغيير والتطور والتصحيح؟ وهل تدرك القوي العالمية, أن الشرق الأوسط علي صفيح ساخن؟ ويحتاج إلي تجفيف منابع الإرهاب والتطرف, بمعالجته للأزمات والكوارث الكبري في فلسطين والعراق وإعطاء الشعوب حريتها في تقرير المصير, إنها معادلة صعبة وتبدو متشائمة, لكنها ليست مستحيلة في عالم لا يعرف المستحيلات.