عرب ما بعد كوسوفا هل هم عرب ما بعد تحرير الكويت؟

هل لنا أن نعترف بحقائق العصر، ونتعامل معها بواقعية، ليس فى ذلك دعوة إلى الانهزام، أو قبول بالأمر الواقع، لكنه رؤية للخروج من الأزمات، والسماح للمنطقة العربية بنمو طبيعى، والدعوة إلى تعاون إقليمى صحيح، يقوم على معطيات العصر، ولنا الآن أن نسعى إلى الواقعية الإيجابية والصراحة التى يجب أن تسود الخريطة العربية، ولنورد عددا من التصورات عن شكلها وطبيعتها.
لقد فجر ذلك فى ذهنى تصريحُُ لمسئول عراقى ـ مازال يعيش بالعقلية القديمة، ولم يستوعب ما يحدث إقليميا أو عالمياً ـ أشار فيه إلى أن العراقيين ينتظرون مزيدا من التأديب بعد أن يتفرغ »الناتو«، أو الولايات المتحدة من حرب كوسوفا، ومعاقبة سلوبودان ميلوسوفيتش، الذى كان ومازال يؤيده صدام حسين حاكم العراق، ليس حبا بالقطع فى الديكتاتور الصربى، الذى فجر عناقيد الغضب، والتطهير العرقى فى قلب أوروبا فى العام الأخير من القرن العشرين فى البلقان، ليخرج بالإنسان الصربى أسوأ ما يمكن أن يتصف به إنسان من الوحشية والبربرية والهمجية، التى جعلت هذه الجماعة الإنسانية ككل تقترب أو تتساوى مع الحيوانات المفترسة ـ حاشا لله ـ
فهذه الحيوانات لم تمارس فظاعات الصرب مع الألبان، التى كرست الخوف، بل عدم القدرة على التسامح ونسيان هذه الفظاعات التى تُكْتشف الآن فى شكل المقابر الجماعية والهمجية فى الموت والقتل، والتى ليس لها مثيل إلا فى القرون الأولى للإنسانية، التى كان يقتل فيها الإنسان شقيقه الإنسان لمجرد الاختلاف معه على قطعة طعام، ثم تطورت شهوة الصرب للقتل ليس بحثا عن الطعام، ولكن للاختلاف فى العرق والدين.
ولم يتصور إنسان عربى معاصر أو عاقل أن يجد فى منطقتنا مؤيدا لوحشية ميلوسوفيتش، إلا صدام حسين، الذى أوصل منطقتنا إلى موقف شبيه بما حدث فى البلقان بعد حربين طاحنتين، فى قلب الخليج إحداهما حرب عربية ـ عربية، كرست الخوف فى منطقتنا، وغيرت من شكل كل العلاقات العربية، ولن نكرر الحديث فيما حدث فى منطقتنا العربية، ولكن أليس مطلوبا منا أن نتعلم مما يدور فى العالم، لاستخلاص دروس التعامل الإقليمى والدولى، حتى لا نقع فى مشاكل كبرى تستنزف الطاقة وتبدد الموارد، وتضيع الفرص على شعوبنا، التساؤل الذى يطرح نفسه الآن والذى نتج عن حرب الخليج، هو هل استوعبنا دروسها وأخطاءها وخطاياها؟
ومن ثم وضعنا أسلوبا جديدا يتسم بالاستيعاب والتعلم، حتى لا نكرر أخطاءنا التى وقعنا فيها جميعا، ودفعنا بسببها ثمنا باهظا، وهكذا نكتشف مما يطرحه المسئول العراقى ـ الذى يتحدث بلغة قديمة وبالية عما بعد كوسوفا، وتَفَرُّغ الأمريكيين لضرب العراقيين مرة أخرى ـ إننا لم نتعلم ولم نستوعب دروسها، ومازلنا نكرر نفس الأخطاء، بل إن العلاقات العربية ـ العربية مازالت كلها مترددة وأسيرة لما حدث فى التسعينيات، وغاب عنها الرأى السليم والعاقل الذى يحاول الخروج من الأزمات،
فالعرب أسرى حرب الخليج، والخوف كل الخوف من أن يقعوا أسرى حرب كوسوفا، ويظلوا هم الوحيدون المترددون فى هذا العالم، فلا يقتحمون مشاكلهم بحلول عاجلة أو بمواجهة حاسمة، فسعيهم مازال مستمرا لالتقاط الأزمات، وتعميق الخلافات، والبحث فى العقل القديم عما يكرس ضعفهم وتشتتهم، وبُعْدهُم عن واقعية العصر.
البعض يتشاءم، لأن هناك من يعمقون ذلك التشاؤم، وأبرزهم المترددون فى قبول السلام، الباحثون عن الخلافات العربية، حول الحدود والأدوار الإقليمية، أصحاب صراع الحضارات، الذين يُخرجون الصراع الدينى من عقاله، ويشجعون التطرف، ويؤيدون من يحمل السلاح على الحكومات تحت دعوى عدم العدالة فى النظام العالمى الراهن، والبعض الآخر يتفاءل ويرى التغيير قادما، ويشير إلى الذين يدعمون الحوار الإقليمى ويطالبون بالسلام العادل، ويحاربون التطرف والإرهاب، ويشيرون إلى نجاحات مصر فى هذا الإطار، فى دعمها للسلام، وردع العنف والإرهاب، وسعيها إلى السوق العربية المشتركة، وقد انضمت إليها السعودية فى حل الخلافات مع الجيران فى الشرق الأوسط، خاصة مع إيران، وأخيرا هناك متغيرات جوهرية فى الجزائر للتخلص من العنف والإرهاب، والتعاون المغاربى الكبير المنتظر فى قضية الصحراء، وكذلك دور ليبيا الكامل فى التعامل مع قضية لوكيربى، والتوجه الإفريقى،
وكذلك دعوة الإمارات للتعاون الإقليمى ونبذ الخلافات. هناك إيجابيات كثيرة، لكن القطار لم يتحرك بعد، فالعقل القديم يتحكم ويسيطر خوفاً من التغيير، وتخوفاته قد تكون صحيحة ـ فى مضمونها، لكنها بالقطع غير صحيحة فى اختيار التوجهات وشكل المواجهة والسعى إلى التغيير، وتحمل تبعاته، ودفع ثمن التقدم، وصناعة الواقع المتغير الجديد، فليس هناك نجاح أو تقدم أو تغيير بدون ثمن، وقد يكون فادحا، لكن علينا دفعه، فثمن التأخر والتقهقر وعدم المواجهة أفدح من قدرتنا على تحمله.