سكريبت شارون للسلام

أزمة جديدة، قنبلة فى سيارة، يحملها فلسطينى، فجر نفسه فى القدس، جثث القتلى فى الحادث تتناثر بالعشرات، والجرحى بالمئات، رئيس الوزراء الإسرائيلى شارون يصل إلى موقع الحادث، اتهاماته المتكررة للرئيس الفلسطينى ياسر عرفات والسلطة أصبحت ممجوجة هذه المرة، فشذ عن القاعدة، وكال الاتهامات للدولة المرتقبة، فى محاولة لتسفيه الفكرة من أساسها، زاعما بأنها دولة الإرهابيين، محاولا التأثير على الرأى العام فى بلاده، وفى المنطقة، الذى كان يرتقب إعلان الرئيس بوش خطوات المرحلة القادمة، بينما كان المراقبون ينتظرون السلام القادم، وجد شارون وجماعته ضالتهم المنشودة، فى الحادث الجديد بعدد ضحاياه الكبير، فى العودة بفلسطين إلى دوامة الفعل ورد الفعل.
ولم يجد شارون فى نفسه الشجاعة على الاعتراف، لا عفويا، بفشل سياسته، وأن حملة السور الواقى العسكرية، ذهبت هباء، بل إن السور الحامى الجديد وهو الحائط الذى يبنيه فى الأراضى المحتلة، متجاهلا حقيقة تاريخية، هى أن كل الأسوار سقطت من سور الصين العظيم، إلى سور برلين، مرورا بحائط ماجنيو الفرنسى، وأن الأسوار لم تحم شعوبها، ناسيا أو متجاهلا خط بارليف فى قناة السويس، وفكرة الأسوار أبسط تعليق عليها أنها فكرة غبية، سيتكلف الكيلومتر المربع منها مليون دولار، وهناك ثلاثة آلاف كيلومتر مربع. وسيكتشف بناة السور الجديد، أنه لن يحميهم بل سوف يعزلهم إذا اكتشفوا أنه لن يفصلهم عن الشعب الفلسطينى فقط، بل سيعزلهم عن كل بلدان الشرق الأوسط، ويعود بهم من جديد إلى حارة معزولة جيتو يخشى أصحابها الاختلاط، ويفتح أمامهم طريقا لا نهائيا من الدموع والحسرة، وإدراك أن القوة والرفاهية والتقدم، لا تغنى جميعا عن الاختلاط والتعايش الإقليمى والاعتراف بالحقوق المشروعة.
فكرة مذهلة بسيطة أدركتها سيدة لا تشتغل بالسياسة، بالرغم من أنها زوجة سياسى، وهى السيدة شيرى بلير زوجة رئيس وزراء بريطانيا، عندما أبلغت بحادث القدس الأخير، ردت فى كلمة عامة بكل براءة وعفوية إن غياب الأمل لا يصنع سلاما، أدركت هذه السيدة الحكمة، وقالتها بصراحة ولم تدرك عواقبها أو حساباتها، ورغم تراجعها عما فى أعماقها، فإنها وصلت إلى الجميع، وتلك هى الحقيقة.
السيناريو أو الإسكريبت الجديد، لمنطقة الشرق الأوسط، والذى يعكف الجميع الآن على اكتشافه، وكأنه إبرة صغيرة تاهت فى كومة من القش، هو إعادة التفكير الإستراتيجى بصوت مسموع، فى كل الدوائر فى أوروبا وأمريكا والشرق الأوسط، وداخل كل دوائر صناعة القرار العالمى فى الأمم المتحدة، يجب أن تأخذ فى حسبانها أن الحقائق على الأرض، لا يمكن أن تصنعها القوة، وإلا بماذا تصفون سكريبت شارون الجديد؟
هكذا يفكر فهو يعيد اكتشاف كل شىء فى منطقتنا، وتلك جولة عميقة فى عقله، حيث يصف قرار مجلس الأمن 242 لعام 1967، وهو القرار الذى أكد على عدم قبول اكتساب الأرض بالحرب، يقول شارون إن قرار 242 يعنى منح إسرائيل حقوقا فى الضفة الغربية وغزة مساوية لحقوق الفلسطينيين، التى اعترفت بها رسميا الأمم المتحدة عام 1947.
ويصف قرار 242 على أنه حق إسرائيل فى التأمين والاعتراف بالحدود، ويفترض شارون أن 242 يعنى السماح لإسرائيل بتفسير حدود آمنة، باعتبارها تنفيذا للقرار، ليس على تعديلات صغيرة لحدود قائمة من قبل، لكن إعطاء إسرائيل تصريحا للمطالبة بأجزاء كبيرة من الضفة الغربية وغزة إن لم تكن جميعها على أسس أمنية.
إذن يستخلص شارون أن الضفة الغربية وغزة ليست أراضى يحتلها جيش إسرائيل، لكنها أراض ملكتها فى الأساس جميعها محل نزاع وبالتالى أحاط شارون المجتمع الدولى علما بأن مطالبه فى الضفة وغزة على قدم وساق مع الفلسطينيين.
ولم يفهم شارون ومن دفعوه إلى تبنى هذا التفكير ومن استوردوا منه الفكرة، أن الحقوق التى يذكرها للإسرائيليين فى هذه الأراضى المحتلة همجية للغاية، ولن يدركوا خطورة تأثيرها على شعب بأكمله، وأن التسليم بها يعنى تشريد الفلسطينيين بالكامل، أى يريد شارون تسلط شعب على شعب، بعد النهب والاستيلاء على كل أراضيه، ويتم مطالبته بالتسليم بالسلام بل والقبول الإقليمى بالتعايش، أى همجية أو عقل تخريبى يتصوره شارون؟
هذه هى الفكرة الأولى، أما الثانية التى يطرحها هذا العقل المنحرف، فهى أنه يستطيع أن يجعل الإسرائيليين يضعون نهاية لمقاومتهم العنيفة لإنهاء الاحتلال بدون تقديم إطار عمل سياسى يتحمل من خلاله الالتزام بالطموحات الوطنية الفلسطينية، بل حتى حدها الأدنى، وهناك الكثيرون الذى صدقوا قدرة شارون على تحقيق هذا الهدف غير المعقول، وفهم الولايات المتحدة.
ثم الفكرة الثالثة التى استولت على عقل وفكر رئيس الوزراء الذى يحكم إسرائيل الآن، وهى من أسخف الأفكار التى يمكن أن تتفتق عن أى ذهن سياسى أو غيره، فقد توصل إلى فكرة سخيفة أخرى هى أن أية عملية سلام مع الفلسطينيين يجب أن تنتظر تحول السلطة الفلسطينية إلى الديمقراطية والشفافية والعرضة للمحاسبة داخل مؤسساتها، كنا نتصور أن شارون لا يهتم بديمقراطية السلطة بقدر اهتمامه بفاعليتها فى لجم المقاومة أو كما تسميها إسرائيل الإرهاب ضدها.
لذا فإن جنكيز خان أفضل رئيس للسلطة الفلسطينية بدلا من توماس جيفرسون.
الخطورة ليست فى أفكار شارون، لكن فى رؤية بوش، التى يجب أن تتجه ليس للتوازن بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن إلى قمع رؤية شارون، وإلا فإنها لن تستطيع أن تتحرك قدما أو سنتيمترا واحدا فى قضية الشرق الأوسط.
وإذا لم تتحرك أمريكا بإيجابية وبفعالية فى هذه المرحلة الراهنة فى قضية الشعب الفلسطينى وفرض دولته بالقوة على إسرائيل وشارون، بحدود مناسبة على الأراضى المحتلة فى عام 1967، فإن حملتها على الإرهاب ستفشل وستفقد أمريكا مصداقيتها نهائيا ليس فى الشرق الأوسط، لكن فى العالم كله، وشارون ليس عدوا للفلسطينيين فقط، أو للعرب، لكنه عدو لمستقبل أمريكا فى منطقتنا وفى العالم، وهكذا انقلبت الآية، وأصبح الحليف عدوا، بل إنه يقف أمام مخططاتها للاستقرار، ويؤجج الحروب الراهنة، ويشعل الإرهاب العالمى ليس فى منطقتنا فقط، لكن فى كل العالم.
سيناريو شارون لا يجهض مخططات أمريكا للاستقرار أو يساعدها فى حربها ضد الإرهاب، لكنه يفسد كل خططها، بل إنه يدفع بإسرائيل نفسها إلى حافة هاوية صراع لا يتوقف.
وليس هناك عاقل أو راشد فى العالم يستطيع أن يقمع تلك القوة التدميرية والإرهابية الجديدة، ويضعها فى حدودها، قبل أن تنفلت الأمور.