مقالات الأهرام اليومى

مشهـد الإعـدام يـوم العيـــد‏!‏

لم تكن تنقصنا جثة صدام حسين رئيس العراق السابق لندرك كثرة عدد جثث القتلي في العراق الآن وتدفقها المريع كالفيضان في كل أنحاء البلد المنكوب‏.‏

ولم يكن ينقصنا مشهد إعدامه يوم العيد معلقا علي المشنقة لكي ندرك حجم الهمجية والقسوة التي يتمتع بها المحتلون وأعوانهم من الأحزاب الحاكمة‏.‏

نعم لم يكن ينقصنا مشهد الإعدام في إحدي حجرات دور المخابرات العراقية في الكاظمية إحدي المؤسسات التي تراقب مشهد الجاسوسية والعمل السري في فترة حكم صدام‏,‏ وإبان حربه علي ايران في بداية الثمانينيات من القرن الماضي ـ لندرك أن الحرب بين البلدين انتقلت إلي أشكال جديدة‏,‏ وأنها لم تنته بعد‏,‏ وأن الميليشيات المتعاونة مع الخارج والتي تقتل علي الهوية‏,‏ في كل شوارع بغداد‏,‏ وتمتد إلي عواصم أقاليم العراق امتدادا بغيضا‏.‏

ولم يكن ينقصنا تنفيذ ذلك المشهد ليلة العيد‏..‏ وهو المختلف عليه بين العراقيين سنة وشيعة‏..‏ لندرك أن الحرب الطائفية مشتعلة‏,‏ وأنه لا سبيل لمواجهتها لأن العقلاء قليلون والحمقي كثيرون‏,‏ وأصحاب المصالح والمنتفعين لا يشبعون‏,‏ وقد وقعوا أسري لخيانتهم‏,‏ ومخاوفهم من المستقبل تتجذر وتجعلهم بلا جذور وبلا وطن‏.‏

لم يكن ينقصنا تنفيذ الإعدام في رئيس العراق المحتل والرجل يتبادله حراسه بين جنود الجيش الأمريكي وميليشيا مقتدي الصدر وبدر ليلة عيد الأضحي لندرك أن الحرب الأمريكية في العراق قد فتحت أبواب الكراهية والطائفية بين الشعوب علي مصاريعها‏,‏ بل وفتحت أبواب جهنم للعلاقات بين الشرق والغرب‏!‏

لم ينقصنا اعدام صدام بهذه الطريقة التي تثبت أن العراق لم يعد به دولة ولا مؤسسات وإنما ميليشيات وعصابات تحركها أطراف خارجية‏…‏

إن ما حدث يعني الكثير ـ ومن بين ما يعنيه أن الأمريكيين ـ أو أصحاب القرار فيهم ـ مازالوا يعيشون في حالة من الكراهية والبغضاء‏,‏ وانعدام التوازن‏,‏ بعد أحداث سبتمبر التي وقعت في أمريكا عام‏2001,‏ وأنهم يحملوننا جميعا مسئوليتها‏.‏
ورمزية هذا الحدث تتمثل في الاستهانة بمقدساتنا وحرماتنا في يوم العيد الذي كان يجب أن نركز فيه كل اهتماماتنا ومشاعرنا مع الحجاج وهم يفيضون من عرفة في طريقهم للمشاعر المقدسة‏.‏ ويستعدون للأضحية وتقديم مشاعر التسامح والإنسانية‏,‏ لما يمثله عيد الأضحي من معان سامية حيث ينحر الحجيج أضحية سيدنا إبراهيم بديلا عن الإنسان‏,‏ فيعلون القيم الإنسانية ويرمزون إلي معان أكثر اتساقا وحبا للحياة‏,‏ بل وحبا واحتراما للحيوان‏,‏ والمعني الضمني هو أن استقامة الحياة وعيش الإنسان لا يتحققان إلا بالتكامل بينهما‏,‏ وهكذا فإن رمزية النحر تكريم للإنسان والأضحية معا‏.‏ لكن هؤلاء أرادوا لنا أن ننسي العيد‏,‏ وأن نعيش لحظة صعبة يتصورون أننا بها من الممكن أن نتذكر ما يرون أنه أخطاؤنا وخطايانا‏..‏ ولكننا سوف نتذكر فيها حماقة القوة عندما تعميها غشاوة عن سلامة الرؤية‏.‏

لم نكن يوما مع سياسة الطاغية أو مع المتطرفين والإرهابيين‏,‏ ولا يعني ذلك أن ننسي أو نتناسي حقائق الحياة والسياسة التي تفرض علينا أن نعلو علي الغضب والثآر البغيض فتضيع منا الحقائق وتزرع المخاوف‏.‏ فلقد تذكرنا بالفعل مع ذلك المشهد ووعينا المخاوف عندما يقع الحكام فريسة للقوة الخارجية والتدخل الكامل في شئونهم‏,‏ سواء تحت الاحتلال الأمريكي الكامل أو حتي الولاءات المستمرة لجيران العراق‏,‏ وتحديدا عندما تتدخل إيران في الشأن العراقي وتكون الحكومات المحلية لا حول لها ولا قوة‏,‏ وتنفذ أجندات ورغبات الأجنبي الذي لا يراعي حرمة المقدس وقدسية المعاني السامية علي الرغبات والغرائز‏,‏ ووحشية الثأر والانتقام‏,‏ حتي عندما تغيب لحظة تحقيق العدالة‏.‏

لم تكن تنقصنا جثة صدام‏,‏ ومشهد إعدامه ليلة العيد لكي ندرك حجم الفوضي والكارثة التي وقع فيها العراق بعد الاحتلال ولم تكشف لنا تلك الصورة البشعة عن حجم الجرائم التي حدثت في هذا البلد الشقيق في عام‏2006,‏ وطوال سنوات الاحتلال الطويلة‏,‏ ولم تقل لنا إن المشهد سوف يتغير في‏2007,‏ بل إن هذه الصورة البشعة عمقت مخاوفنا علي مستقبل العراق‏,‏ وأكدت أنه لا فرق بين التوحش والفوضي التي تزرعها الانقلابات‏,‏ وما يحدث في العراق تحت الديمقراطية الأمريكية التي سقطت سقوطا ذريعا في بلاد الرافدين لأنها لم تستطع حتي أن تحقق محاكمة عادلة تكشف للتاريخ جرائم طاغية بحجم وجبروت صدام حسين‏,‏ ولكنها كرست اللا عدل‏,‏ وفتحت الباب واسعا أمام حروب طائفية كبيرة داخل العراق‏,‏ وأصبحت المخاوف أكبر لأنها تهدد بالانتقال إلي خارجها وجر المنطقة كلها الي حروب أهلية وطائفية لا تنتهي‏..‏ كنا نتصور أن التاريخ قد طواها‏..‏ فإذا بها تعود لتطل بوجهها البغيض‏.‏

ويكفي أن نقول إنه بالرغم من بشاعة المشهد وتوقيته المحبط فإن إيجابيته الوحيدة هي أنه كشف الجميع‏,‏ ووضعهم تحت المجهر‏:‏ المحتل وقواته المتخبطة العاجزة‏,‏ وحكومة الاحتلال وديمقراطيتها المزيفة‏,‏ وترددها وعجزها‏,‏ وسلط الضوء علي الجرائم اليومية والمجازر البشعة التي ترتكب ضد شعب العراق‏,‏ والتي تتساوي معها المقابر الجماعية والديكتاتورية التي كانت تتحكم في العراق طوال سنوات حكم صدام حسين‏!‏

إن بشاعة المنظر وكآبة الصورة تكشف عما ينتظر العالم ومنطقتنا تحت تسلط قوة أجنبية قاهرة‏,‏ وقوة إقليمية طائفية‏,‏ إذا لم تحدث يقظة عربية قوية تواجه هذا الطوفان الغادر‏,‏ ويساعدها ضمير عالمي حي يستيقظ علي وقع المأساة اليومية في العراق‏.‏ ليقول لهؤلاء المتطرفين كفي‏.‏ ولنتكاتف لوقف نزيف الدم الذي يحيط بأبناء الرافدين‏.‏ ولا يستطيعون منه فكاكا‏..‏ وكأنه القدر الذي لا يغيب ولا يتوقف‏..‏ فلقد تجسدت دراما الحياة الواقعية أمامنا في صورة حية مريعة مكثفة‏..‏ تدعونا إلي أن نرسل صرخة استغاثة مدوية لكل أصحاب الضمائر الحية في عالمنا ـ إن وجدوا ـ لإنقاذ العراق‏.‏ فقد تحملنا جثث الأفراد الغالية‏,‏ ولكننا لا نتحمل جثث الشعوب‏.‏
osaraya@ahram.org.eg

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى