إرضاع الكبير وأمثالها

إن كتب الفقه مليئة بالكثير من المسائل والقضايا التي طوي النسيان بعضها, وانقطعت صلتها بواقع حياة المسلمين, وأصبحت تراثا فكريا أو فلسفيا أو جدليا. وقديما قال الفقهاء إنه ليس كل ما يعلم يقال. واستقر الرأي علي أن كثيرا من المسائل التي شغلت فقهاء المسلمين من قبل لم تعد صالحة للنقاش أو الطرح, إما لتقادم عهدها وضعف صلتها بحياة الناس أو لأنها يمكن أن تثير البلبلة والاضطراب لدي الناس. هذه حقيقة يعلمها دارسو الفقه جيدا. ولكن عالما من علماء الأزهر غاص في ماض بعيد ليستخرج لنا فتوي يريد نشرها في غير سياقها, وفي غير معناها. لم يجد الرجل حلا لمشكلة الاختلاط بين الرجل والمرأة في أماكن العمل إلا فتوي إرضاع الكبير استنادا لواقعة واحدة طواها الزمن, قصة لسيدة طلبت الفتوي لطفل تبنته صغيرا وأصبح ابنها بالتبني ويعيش معها, وتريد تحصين نفسها في التعامل معه..
ومع أنها حالة خاصة فقد حولها البعض إلي فتوي مثل فتاوي أخري كثيرة أثاروها في الفترة الأخيرة, وتبدو بلامنطق ولا عقل, بل لا يمكننا فهم أي جدوي من ذكرها أو الحديث عنها مثل التبرك بشرب بول الرسول صلي الله عليه وسلم, فهذه الفتاوي يرفضها العقل والفطرة السوية التي نعرفها عن الدين الإسلامي الحنيف الذي يستند في أحكامه إلي العقل والعلم ويرفض الخرافة وتملق الناس بالأساطير… وتتمثل خطورة هذه الفتاوي في أنها تلقي اهتمام عامة الناس وتتلقفها وسائل الاعلام وهي في حالة السعار التي تعيشها لجذب الجمهور.
وهكذا تصبح تلك القصص وما يتبعها من نميمة وشائعات الشغل الشاغل للناس وتتحول إلي أجندة لحديث هم بما يجعلها تلبي حاجة نفسية لدي من أطلقوها ليصبحوا نجوما و مشاهير, ويتحولوا إلي وقود للإعلام الذي يبحث عنهم أو يبحثون عنه, وهم يرتدون ثوب الحكمة وفصل الخطاب.
وتلك الأساليب سوف تستمر بلا شك هدفا لوسائل الإعلام التي تبحث عن تلك الأنماط, دون إدراك حقيقي لتأثيرها في حياة البسطاء والعوام, وعلي سمعة المجتمع والشعب المصري وأساليبه في التدين والحياة, وأيضا علي مكانة الإسلام الحنيف الذي يعلي من شأن العقل والتدبر في العبادات والمعاملات, وبشكل يفوق أي دين سماوي أو وضعي آخر. إن إطلاق تلك الفتاوي بلا وعي أو تدبر لخطورتها وتداعياتها, اللهم إلا بحثا عن الشهرة والوجود الإعلامي, يحدث البلبلة, ويعكس حالة الفوضي التي تعيشها المؤسسات الدينية, وعجزها عن ضبط وتدقيق ما يصدر عن بعض أعضائها ومنعهم أو حمايتهم من الوقوع في مزالق الخطأ و التهور في إصدار الفتاوي الغريبة أو الشاذة التي لم تعد روح العصر وعقليته قادرة علي فهمها أو التسامح مع منظريها.. والأدهي أن إطلاق هذه الفتاوي يخلق لدي الجمهور شعورا عميقا بفقدان الثقة بقياداته الدينية التي يلجأ إليها عندما يلتبس عليه أمر من أمور الدين, في ظل ثورة الإعلام الحديثة التي نالها الكثير من التشوه بسبب بحثها الدائم عن الإثارة.
إن العزاء الوحيد لأصحاب هذه الفتاوي الدينية أنهم لا يختلفون عن نظرائهم في مؤسسات سياسية وتشريعية وقضائية أخري,… الذين لا يكفون عن الإدلاء بالتصريحات والبيانات التي تكيل النقائص والانتقادات لكل شيء في المجتمع, لا بغرض تقويم هذا الشيء والبحث عن أفضل الصيغ والوسائل لتنفيذه بالشكل اللائق, بل لمجرد الظهور الإعلامي وتحقيق الشهرة والنجومية علي حساب الحقيقة والوطن.. ومن كثرة ترديد هذه الأكاذيب تصبح حقائق ومسلمات لدي البسطاء, ويتحول النقد إلي معول هدم وتشكيك في كل إنجاز بالمجتمع, وذلك من خلال فبركة القصص والأحاديث علي ألسنة من مات صانعيها أو قائليها, وبالاستفادة من مناخ الحريات الذي تعيشه مصر الآن, ويتقن هؤلاء أساليب الإثارة والسرد, ويبتكرون سيناريوهات ووقائع ثم يحيطونها بالغموض والغرابة.. مع تكثيف الحوار حولها, لاصطياد فرائسهم من العوام الذين تنطلي عليهم هذه الأساليب.
إن فتاوي إرضاع الكبير وشرب بول الرسول للتبرك لا تختلف كثيرا عن تدني وهبوط لغة الحوار واللجوء إلي المهاترات والشتائم المثيرة عبر الإعلام لجذب المشاهدين, وهو ماجعل العاملين في تلك المجالات السياسية والاقتصادية والدينية معرضين لأن يصبحوا أدوات أو دمي تحركها الأيدي من وراء ستار مثل لعبة العرائس.
لقد بات حريا بالمتخصصين أن يحكموا العقل والمنطق لكي يحموا أنفسهم ومؤسساتهم وأوطانهم من الانزلاق لهذا المستوي المتدني, لأنهم سوف يتحولون وقتها إلي دمي تافهة في يد من يتصور أنه نجم ومركز للأحداث, وهي رؤي قصيرة العمر والمدي لا طائل منها.
والحل المنطقي والأجدر بالتطبيق هو أن نبني رأيا عاما واعيا يتم تحصينه ضد هذه الأنماط من المنتجات الإعلامية فيرفضها ولا يناقشها, ويسفه أصحابها ويكشف فورا سفه آرائهم, أو سوء نياتهم وأهدافهم حتي لا يلجأوا إلي هذه الأساليب في المستقبل…
وأعتقد أن الحرية التي نعيشها الآن سوف تصحح نفسها وسوف تكشف أصحاب هذه الألاعيب وتطردهم من الساحة الثقافية والإعلامية.. وتطهرها من المدعين حتي لا يبقي بها إلا كل من يغذي العقل ويظهر إبداعا حقيقيا.. ويزيد قدرته علي فهم الحياة وتطويرها وبنائها ودفعها إلي الأمام.