مقالات الأهرام اليومى

إرضاع الكبير وأمثالها

لم يلق الإسلام من الأذي قدر ما لقي من بعض أبنائه‏,‏ ولم يتعرض الدين الحنيف للتشويه مثلما تعرض من بعض المسلمين‏.‏ هذه حقيقة يعرفها الجميع عبر التاريخ‏.‏ فالإسلام أقوي في مواجهة المفتريات التي رددها غير المسلمين وما أكثرها‏,‏ ولكن الأذي الذي يلحق بالإسلام من بعض أتباعه أشد تأثيرا‏.‏ ومصيبتنا هذه الأيام أن الإضرار بالإسلام يأتي من بعض علمائه ودارسي علومه‏..‏ وهم الذين حملوا أمانة ديننا وعقيدتنا وشريعتنا في أعناقهم‏..‏ نحتكم إليهم في أمر هذا الدين‏,‏ ونمضي في حياتنا خلف فتاواهم بلا نقاش مطمئنين لما يقولون‏.‏ كانت طاعتهم فيما يقولون واجبة فهم حفظة الدين وورثة الأنبياء وشهودنا علي عظمة هذا الدين وجلاله‏.‏ ولكن البعض منهم صدموا مشاعرنا وأدخلوا في ديننا ما ليس فيه‏..‏ وأصبحنا بسببهم نتعرض للتشويه والتحريف والتزييف‏.‏

إن كتب الفقه مليئة بالكثير من المسائل والقضايا التي طوي النسيان بعضها‏,‏ وانقطعت صلتها بواقع حياة المسلمين‏,‏ وأصبحت تراثا فكريا أو فلسفيا أو جدليا‏.‏ وقديما قال الفقهاء إنه ليس كل ما يعلم يقال‏.‏ واستقر الرأي علي أن كثيرا من المسائل التي شغلت فقهاء المسلمين من قبل لم تعد صالحة للنقاش أو الطرح‏,‏ إما لتقادم عهدها وضعف صلتها بحياة الناس أو لأنها يمكن أن تثير البلبلة والاضطراب لدي الناس‏.‏ هذه حقيقة يعلمها دارسو الفقه جيدا‏.‏ ولكن عالما من علماء الأزهر غاص في ماض بعيد ليستخرج لنا فتوي يريد نشرها في غير سياقها‏,‏ وفي غير معناها‏.‏ لم يجد الرجل حلا لمشكلة الاختلاط بين الرجل والمرأة في أماكن العمل إلا فتوي إرضاع الكبير استنادا لواقعة واحدة طواها الزمن‏,‏ قصة لسيدة طلبت الفتوي لطفل تبنته صغيرا وأصبح ابنها بالتبني ويعيش معها‏,‏ وتريد تحصين نفسها في التعامل معه‏..‏

ومع أنها حالة خاصة فقد حولها البعض إلي فتوي مثل فتاوي أخري كثيرة أثاروها في الفترة الأخيرة‏,‏ وتبدو بلامنطق ولا عقل‏,‏ بل لا يمكننا فهم أي جدوي من ذكرها أو الحديث عنها مثل التبرك بشرب بول الرسول صلي الله عليه وسلم‏,‏ فهذه الفتاوي يرفضها العقل والفطرة السوية التي نعرفها عن الدين الإسلامي الحنيف الذي يستند في أحكامه إلي العقل والعلم ويرفض الخرافة وتملق الناس بالأساطير‏…‏ وتتمثل خطورة هذه الفتاوي في أنها تلقي اهتمام عامة الناس وتتلقفها وسائل الاعلام وهي في حالة السعار التي تعيشها لجذب الجمهور‏.‏

وهكذا تصبح تلك القصص وما يتبعها من نميمة وشائعات الشغل الشاغل للناس وتتحول إلي أجندة لحديث هم بما يجعلها تلبي حاجة نفسية لدي من أطلقوها ليصبحوا نجوما و مشاهير‏,‏ ويتحولوا إلي وقود للإعلام الذي يبحث عنهم أو يبحثون عنه‏,‏ وهم يرتدون ثوب الحكمة وفصل الخطاب‏.‏

وتلك الأساليب سوف تستمر بلا شك هدفا لوسائل الإعلام التي تبحث عن تلك الأنماط‏,‏ دون إدراك حقيقي لتأثيرها في حياة البسطاء والعوام‏,‏ وعلي سمعة المجتمع والشعب المصري وأساليبه في التدين والحياة‏,‏ وأيضا علي مكانة الإسلام الحنيف الذي يعلي من شأن العقل والتدبر في العبادات والمعاملات‏,‏ وبشكل يفوق أي دين سماوي أو وضعي آخر‏.‏ إن إطلاق تلك الفتاوي بلا وعي أو تدبر لخطورتها وتداعياتها‏,‏ اللهم إلا بحثا عن الشهرة والوجود الإعلامي‏,‏ يحدث البلبلة‏,‏ ويعكس حالة الفوضي التي تعيشها المؤسسات الدينية‏,‏ وعجزها عن ضبط وتدقيق ما يصدر عن بعض أعضائها ومنعهم أو حمايتهم من الوقوع في مزالق الخطأ و التهور في إصدار الفتاوي الغريبة أو الشاذة التي لم تعد روح العصر وعقليته قادرة علي فهمها أو التسامح مع منظريها‏..‏ والأدهي أن إطلاق هذه الفتاوي يخلق لدي الجمهور شعورا عميقا بفقدان الثقة بقياداته الدينية التي يلجأ إليها عندما يلتبس عليه أمر من أمور الدين‏,‏ في ظل ثورة الإعلام الحديثة التي نالها الكثير من التشوه بسبب بحثها الدائم عن الإثارة‏.‏

إن العزاء الوحيد لأصحاب هذه الفتاوي الدينية أنهم لا يختلفون عن نظرائهم في مؤسسات سياسية وتشريعية وقضائية أخري‏,…‏ الذين لا يكفون عن الإدلاء بالتصريحات والبيانات التي تكيل النقائص والانتقادات لكل شيء في المجتمع‏,‏ لا بغرض تقويم هذا الشيء والبحث عن أفضل الصيغ والوسائل لتنفيذه بالشكل اللائق‏,‏ بل لمجرد الظهور الإعلامي وتحقيق الشهرة والنجومية علي حساب الحقيقة والوطن‏..‏ ومن كثرة ترديد هذه الأكاذيب تصبح حقائق ومسلمات لدي البسطاء‏,‏ ويتحول النقد إلي معول هدم وتشكيك في كل إنجاز بالمجتمع‏,‏ وذلك من خلال فبركة القصص والأحاديث علي ألسنة من مات صانعيها أو قائليها‏,‏ وبالاستفادة من مناخ الحريات الذي تعيشه مصر الآن‏,‏ ويتقن هؤلاء أساليب الإثارة والسرد‏,‏ ويبتكرون سيناريوهات ووقائع ثم يحيطونها بالغموض والغرابة‏..‏ مع تكثيف الحوار حولها‏,‏ لاصطياد فرائسهم من العوام الذين تنطلي عليهم هذه الأساليب‏.‏

إن فتاوي إرضاع الكبير وشرب بول الرسول للتبرك لا تختلف كثيرا عن تدني وهبوط لغة الحوار واللجوء إلي المهاترات والشتائم المثيرة عبر الإعلام لجذب المشاهدين‏,‏ وهو ماجعل العاملين في تلك المجالات السياسية والاقتصادية والدينية معرضين لأن يصبحوا أدوات أو دمي تحركها الأيدي من وراء ستار مثل لعبة العرائس‏.‏

لقد بات حريا بالمتخصصين أن يحكموا العقل والمنطق لكي يحموا أنفسهم ومؤسساتهم وأوطانهم من الانزلاق لهذا المستوي المتدني‏,‏ لأنهم سوف يتحولون وقتها إلي دمي تافهة في يد من يتصور أنه نجم ومركز للأحداث‏,‏ وهي رؤي قصيرة العمر والمدي لا طائل منها‏.‏

والحل المنطقي والأجدر بالتطبيق هو أن نبني رأيا عاما واعيا يتم تحصينه ضد هذه الأنماط من المنتجات الإعلامية فيرفضها ولا يناقشها‏,‏ ويسفه أصحابها ويكشف فورا سفه آرائهم‏,‏ أو سوء نياتهم وأهدافهم حتي لا يلجأوا إلي هذه الأساليب في المستقبل‏…‏

وأعتقد أن الحرية التي نعيشها الآن سوف تصحح نفسها وسوف تكشف أصحاب هذه الألاعيب وتطردهم من الساحة الثقافية والإعلامية‏..‏ وتطهرها من المدعين حتي لا يبقي بها إلا كل من يغذي العقل ويظهر إبداعا حقيقيا‏..‏ ويزيد قدرته علي فهم الحياة وتطويرها وبنائها ودفعها إلي الأمام‏.‏

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى