مقالات الأهرام اليومى

أدب الحوار مع الرموز

أكتب وأمامي نص الكلمة التي ألقاها فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر في ليلة القدر‏,‏ وبالرغم من استماعي إليها‏,‏ فإنني لاأعرف سر الحملة التي بدأها البعض ضده‏.‏

كان الشيخ الجليل يتحدث عن الدعاء في ليلة القدر وشروط الاستجابة له‏,‏ واستبعد الاستجابة لدعاء من وصفهم بالمغرورين المتكبرين الذين يقذفون غيرهم بأقبح ألوان الرذائل وبأشنع التهم‏,‏ ويبرئون أنفسهم منها ثم لايريدون أن تطبق عليهم أحكام الله‏.‏ وتطرق الشيخ إلي آيتين من سورة النور حول قذف المحصنات وشرح للعقوبات التي جاءت بها الشريعة الإسلامية تفصيلا‏,‏ من عقوبات حسية ومعنوية ودينية‏.‏

غير أن هذا الخطاب الديني تعرض لقراءة مغرضة تأثرت بسياسات بعض وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة‏,‏ وتعرض العالم الجليل لكثير من النقد الخارج عن حدود الخطاب مع رمز ديني له مكانة لابد من الحفاظ عليها‏.‏

وخرجت بعض عناوين الصحف تندد بإجازة الإمام الأكبر لجلد مروجي الشائعات‏.‏ كما تضمنت الردود الكثير من الاتهامات منها المشاركة في التحريض ضد الصحفيين وأصحاب الرأي وتشويه الدين وإلحاق الضرر بسمعة مصر خارجيا‏,‏ ووصلت إلي حد اتهامه بفقدانه صلاحيته لإدارة الأزهر‏.‏ والقضية برمتها تعكس أزمة الحوار لدي الأقلية التي تريد أن تفرض رأيها بالعنف والصوت العالي علي الأغلبية‏,‏ والذي مازلنا حتي الآن نعتبره حوارا ديمقراطيا علي أمل أن تصحو وتتعلم هذه الأقلية وتستفيد وأن تنضم إلي الأغلبية في تدعيم التطور والإصلاح الديمقراطي في مصر‏.‏

وبالعودة إلي خطاب الشيخ‏,‏ فإن الخطاب لم يتضمن كلمة واحدة عن الشائعات‏,‏ كما لم يتطرق إلي تطبيق عقوبة الجلد في قضايا النشر‏,‏ خاصة ونحن في مصر لا نطبق العقوبات البدنية‏,‏ ولا تحمل كلماته تحريضا ضد أحد‏.‏ ومن السفه القول بأن شيخ الأزهر المرجعية الأولي الدينية للمسلمين يعمل علي تشويه الدين لأنه أورد حكما قاطعا من صحيح الدين في قضايا القذف لم يعجب أصحاب الصوت العالي‏.‏

إن حديث الشيخ الجليل يعد حديثا تثقيفيا لعامة المسلمين‏,‏ وكان الأجدر من توجيه الاتهامات اللجوء إلي المناقشة الفقهية والعلمية التي يستحقها لكي تنقي الأجواء‏.‏ وليس اللجوء إلي لي العنق بالكلمات التي تصب المزيد من النار علي الحوار الملتهب‏,‏ وتخيف الآخرين وتمنعهم من الاقتراب حتي لاتحترق أصابعهم‏.‏

فالشيخ الجليل الذي نحترم قدره وتواضعه مع عموم الناس ومشاركته للمجتمع في أداء رفيع لشيخ الأزهر الشريف‏,‏ لم يأت في حديثه بجديد لم يسبقه إليه فقهاء المسلمين علي مدي القرون الأربعة عشر الماضية‏.‏ وربما أراد الذين هاجموا الشيخ تفصيل الوعظ الديني الرشيد لصالح جماعات بعينها‏.‏ إذ أن الكثيرين من المتربصين الراغبين في افتعال المعارك يحاولون الوصول بالإثارة إلي حدودها القصوي بصرف النظر عن نتائجها‏.‏ فقد خرج علينا من يقارن شيخ الأزهر بموقف الرهبان البوذيين في بورما‏,‏ وهو في حقيقته يريد المقارنة بين مصر وبورما التي يحكمها نظام عسكري‏.‏ ولو أنصف هؤلاء لقالوا لنا كيف كان مصيرهم لو أنهم كتبوا في تلك البلاد مقالا واحدا من الألوف التي يكتبونها نقدا وتلفيقا وتجريحا في مصر‏.‏

ولم يقل أحد أن الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر قد أحاط نفسه بهالة أو قداسة ولم يفعلها أحد له‏.‏ ولكنه يظل رمزا لمؤسسة دينية لها مكانتها في الماضي والحاضر والمستقبل‏.‏

وهذا الرمز لا يوجب القداسة ولكنه يوجب التزام أدب الحوار وإنزال الناس منازلهم‏,‏ وهذا من مبادئ الأخلاق في مجتمعنا والقيم التي يجب أن نلتزم بها إذا أردنا أن تنمو الديمقراطية فيه‏.‏

وهؤلاء الذين ينادون بأن يحتفظ الأزهر بمسافة تفصله عن السياسة العامة للدولة‏,‏ هم في الحقيقة يريدون إقصاء علماء الأزهر بفهمهم الصحيح للدين من أجل أن تصبح الساحة خالية أمام المتلاعبين بالدين والسياسة معا من أجل أهداف الجماعات المحظورة‏,‏ ولأشباه العلماء وأنصاف المتعلمين الذين يريدون السير بالمجتمع إلي طريق الهلاك باسم الدين‏,‏ وقد عرفناهم زمنا ومازلنا نعاني وبال أعمالهم في الداخل والخارج‏.‏

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى