استاد القاهرة.. وكأس إفريقيا

الأثنين 12 من ذي القعدة 1440 هــ
العدد 48433
صيف 2019 فى مصر صبغ بنكهة إفريقية محببة إلى القلوب، فى مقاهينا وبيوتنا ومنتدياتنا، نقابل إخوتنا من الجنسين، من معظم بلاد إفريقيا الذين حضروا للسياحة، والمشاركة، وتشجيع أكبر بطولة إفريقية، نظمت فى مدن مصر، فى أكبر مدينتين مصريتين «القاهرة والإسكندرية»، ومدن القنال.
الحفاوة والترحيب والمحبة من المصريين لأشقائهم كانت واضحة لا لبس فيها، ليس للإخوة الأفارقة العرب من شمال إفريقيا «الجزائر وتونس والمغرب» فقط، ولكن لكل إفريقيا فى الجنوب والشمال والوسط، صورة بانورامية ناطقة باسم الشخصية والهوية المصرية التى ترنو إلى جذورها، وتعبر عما تكنه من محبة، سواء للعالم الذى نعيش فيه، أو لجيراننا، ولقارتنا الإفريقية ذات الجذور العميقة، وكنت أستغرب هل سقط التعصب فجأة؟ أم أننا كبرنا فجأة؟ وأصبحنا ندرك حدود المنافسة، ونضع كل شيء فى مكانه، وهل رؤيتنا اختلفت، وحكمنا على الأشياء، والأحداث تميز وتغير؟
قد أستطيع أن ألمس النضج الذى طرأ فى السنوات الأخيرة على الشخصية المصرية، فى الأحداث السياسية والاقتصادية يرفضون العنف والإرهاب والإثارة والفوضى، ويرفضون المتاجرة بالأديان، يدركون المعنى الحقيقى للقيم والمبادئ.. المصريون يتحملون ويقبلون بالرضى والصبر..قرارات اقتصادية مصيرية، وضرورية فى حياتهم، صعبة فى السلع والخدمات، بما فيها الطاقة والبنزين، ويصححون الدعم، ولا يتذمرون، بل هم من يسارعون بشرح أبعاد هذا التغيير، وتأثيره على بلدهم وأبنائهم فى المستقبل..
هذا جديد علينا، وسيكون مؤثرا فى مسارنا، وفى قادم الأيام استهوتنى متابعة حالة المصريين والجمهور، لكى أعرف، من مدرجات الكرة، حجم التغيير والتطور الذى طرأ على الناس، وهم يبنون بلدهم، ويغيرون حاله بصبر ودأب وبصيرة عالية، كيف سيتصرفون مع الحدث الكروى الأبرز، أكثر من متابعة المباريات، رغم إثارة الكرة والنتائج وتأثيرها على من سيحمل الكأس، هل سيتقبل المصريون النتائج؟ لاحظت كما لاحظ كثير من عشاق الكرة، ومن هواة التعصب الذين أعرفهم، كانوا يخرجون من متابعة لاعبيهم فى الدور الأول، حيث فاز فريقهم فى كل المباريات غير راضين عن الفريق، بل عن النجوم الذين يتعصبون لهم، ويضعونهم فى مكانة لا تقبل النقد.
أنا هنا لا أصور حالة الإعلام، ونقاد الرياضة، إلا من رحم ربى، ولكن أصور حال الناس، والشارع من المتابعة، ثم كان الاختبار الصعب، ففريقنا الكروى يخرج مبكرا فى الدور الثانى من البطولة التى كانوا يرنو إلى كأسها الثامنة، وهزم على يد فريق جنوب إفريقيا الذى يصنف بأنه متواضع، وتأهل للدور الثانى كأفضل فريق ثالث فى مجموعته، ليس مثلنا أول مجموعتنا بلا هزائم أو تعادل، ويلاعب البطل على أرضه، وبينهم نجوم مثل محمد صلاح صاحب الكرة الذهبية وتريزيجيه المتألق الذى خطف الأبصار، ولكنها الكرة لها أحكامها، لا تعطى بالشهرة أو لأصحاب الأرض.. الفريق العريق يخرج وسط جماهيره المتعصبة والمتعطشة، لأن ترى نجوم الجيل الحالى على منصة التتويج، وكان الجمهور المصرى قادرا على أن يدرك أن اللاعبين وفريقهم خسر، والكرة ليست ظالمة بل عادلة، أعطت اللاعبين وإدارييهم واتحادهم ما يستحقون، هم ومدربهم الأجنبى، فهم يلعبون بعشوائية من المباراة الأولى، بل من كل مبارياتهم السابقة على هذه البطولة، والمنظر الهزيل يلازمهم فى كأس العالم، والمنظر فى المباراة الأخيرة لا يغيب عن أذهان أحد!!
فريقهم لا يستحق الفوز، ولا يستحق الاستمرار فى البطولة، ولذلك أقصى.. تصورت للحظة أن البطولة الجميلة سيختفى بريقها ولمعانها، ولكن الجمهور الحقيقى أدرك أنه البطل، وأنه صاحب الحدث، وأنه ضلعه الرئيسى فى مثلث الحدث، وأنه رأس البطولة وصاحبها، حتى النهاية، وأكاد أراه يمتلئ فى استاد القاهرة، لكى يشهد المباراة الختامية التى لن يكون فريقهم طرفا فيها، لكن ستكون مصر الرسمية والشعبية حاضرة، لتقول إنها قلب إفريقيا، وأم العالم، كما تطمح وتخطط وتعطى الكأس لمن يفوز، وتشجع الكل، وتحترم من يعرق ويكبر من أجل الفوز، ولكن الحدث الإفريقى الكروى ازداد لمعانا، وبريقا..
الجمهور المصرى، لم يختف بل تألق، وشجع الكل بلا تعصب، أدرك أن الفوز، رغم أهميته، لحظة، ولكن الأكثر قيمة والأطول عمرا هو الاستيعاب والفهم والقيم التى يؤمنون بها، والحكم الصحيح على الأشياء.. لم يكن هذا الحدث الإفريقى الوحيد الذى شدنى فى يوليو 2019، ولكن هناك خطوة قيام السوق الإفريقية المشتركة التى أعلنت فى نيامى عاصمة النيجر، ولم تستطع الكرة أن تخفى بريقها أو تأثيرها المستقبلى على حركة السلع والخدمات، واقتصاد الناس وحركة الناس فى أكبر منطقة تجارة حرة فى العالم، قد تسبق أوروبا، إذا وجدت الإرادة السياسية الصلبة فى دفعها إلى الأمام، عبر دعمها بشبكة بنية أساسية، وطرق، وطيران، وسفن بحرية، ورواد أعمال خلاقين، ستكون نقطة جذب تجذبنا نحو بلادنا، وتمنع الهجرة، سواء كانت شرعية أو غير شرعية، وتوفر فرص العمل بالملايين لأبنائنا وبناتنا، وستجعل إفريقيا الجميلة بجغرافيتها، وأهلها بؤرة جذب واهتمام وتحول فى العالم كله.
يبدو لى أن الأفارقة يكتبون فى العام الذى تولت فيه مصر رئاسة الاتحاد الإفريقى قصصا من النجاح والتكامل والارتقاء والتطور، سيكون لهم كلمة على مسارح العالم الذى يتغير الآن، ويعطى لمن يعملون ويخططون مكانتهم فى هذا العالم المتغير.