حوار بين بُكاة وجفيفين!

السبت 12 من جمادي الآخرة 1446 هــ
العدد 50412
فى الأحداث الصعبة التى تلم بنا، ونحن نعيش ذروتها الآن فى غزة، ولبنان، وسوريا، لا أَملّ عندما تشتد الأمور، ويستعصى التفكير، ويصعب الكلام، ويزيد الخوف والتأمل فى الأحداث، والكثير من البكاء – من أن ألجأ إلى كتب علم الإنسان وحياته، وليس التاريخ، فلا أومن بتكرار الأحداث، قديمها وحديثها، رغم المشاهد التى تكاد تكون متشابهة فيها بين الأمس واليوم، لأن خامة الحياة واحدة، والإنسان يتكرر، وقد لا يتعلم منها، فنسقط فى المقارنات بين الماضى السحيق والأحداث الجديدة، والراهنة، والتحليلات، والقصص بلا معنى.
لدىّ كتاب أضعه أمامى باستمرار أكرر قراءته، وأتعمق فيه عن «تاريخ البكاء»، يرصد تاريخ الدموع الطبيعى، والثقافى، لكاتب عالمى (توم لوتز)، وترجمه للعربية عبدالمنعم محجوب.
أما البكاء فإن العَبْرَةَ هى الدمعة، قيل هو أن ينهمل الدمع، ولا يُسمع البكاء، أو هى الدمعة قبل أن تفيض، ومنها عبر عبرا إذا بكى، والعبر، والعبران: الباكى.. قال ابن منظور: اللسان يعبر عما فى الضمير، أليست العين مثله؟، يُجيب ويلخص الفيلسوف توم لوتز، متعاطفا مع البكاة، ومختبرا شغفه على نحو جيد، نعم العالم ينقسم إلى معسكرين: بُكاة وجفيفين، أى جفت مدامعهم.
وأخيرا، ليس من عادتى أن ألجأ إلى اللغة الموازية، حيث طبيعتى الصحفية تجعلنى مباشرا، لكننى لم أستطع أن أحلل الأحداث الأخيرة، والمسلسلة، والمتتالية، وصولا إلى «سوريا»، من غزة، ولبنان، ومئات الضحايا، والمصابين، والمهاجرين، والغياب الكامل للرؤية إلى عالم البكاء والتأمل فيما يحدث، ولم أجف، لأن البكاء، وذرف الدموع ظاهرة بشرية عالمية، فعبر التاريخ فى كل ثقافة تذرف الدموع انفعالا، ولابد لكل شخص أن يبكى فى وقت ما، وفى أى مكان، وقد وجدت أن البكاء وقراءة الإنسان قد تكون أفضل فى متابعة القصص الخبرية، بل حتى الهجوم على المقابر، متذكرا ما حدث بين الأمويين والعباسيين، وفى دمشق كذلك، وفى صدر الإسلام، وصراعات الطوائف والمذاهب التى تجعلنا نعيش عصورا سحيقة فى الدولة الحديثة التى ذهبت للفضاء، وتستخدم التكنولوجيا والعلوم الحديثة، ونحن مازلنا فى عصر البكاء للتعبير عن مكامن داخلية فى شخصياتنا المعاصرة، والتاريخية.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.