الشيخ خليفة .. والسعدنى.. وأبوعاقلة

الأثنين 15 من شوال 1443 هــ
العدد 49469
عند الوصول إلى محطة النهاية بكل ملابساتها تكون هناك قصة كبرى قد كُتبت، وحولها تتمحور رؤية ودورا، ومن مكوناتها نستخلص قصة الإنسان والبشر عامة، وحولها تدورالحياة وعبراتها للأجيال المتتابعة. تتابعت المحطة الأخيرة لثلاث شخصيات لهم مكانة عندى، وفى المنطقة كلها.. عرفنا أدوارهم عبر حياتهم، وحملت رحلاتهم رسائل، وعِبرا مدوّية لنا، وللإنسان عامة.. قد نستخلص منها كلمات قليلة، لكنها ستظل باقية عبر الأجيال لأهمية، وأدوار الثلاثة الذين أتحدث عنهم بين الماضى، والحاضر، والمستقبل. أتوقف فى البداية عند آخرهم الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، حاكم أبوظبى، ورئيس دولة الإمارات، الذى خَبرناه، وعَرفناه بصفاته الساميِّة، وحكمته، فهو الحاكم الطيب، الودود لأهله، وعروبته، لا يهوى الضجيج، بل لا يحب الضوء، رغم أنه يجلس فى عينه، وتحت الشمس، بل يراه القمر. ولعلى حظيت فى رحلتى المهنية، والصحفية بالحديث الوحيد الذى أجراه للصحافة المصرية، والعربية، وغيرهما، وكان فى ٢٦ نوفمبر ٢٠٠٨، حيث استقبلنى، يومها، بحفاوة تعكس تواضعه، ومحبته لبلادى، وتقديره لصحيفتى، وكان يومها الرجل القوى، الذى يجلس على كرسى والده بشخصية سامقة، بعد ٤ سنوات على رحيله، وهو الحكيم، والمعروف فى أغنى إمارة عربية (أبوظبى)، وفى دولة الوحدة العربية الوحيدة الباقية (الإمارات)، التى أقامها والده، عليه رحمة الله، ونجحت، واستمرت، وأصبحت رقما صعبا فى عالمها، وفى منطقتنا نرنو إليها فى الملمات، والأزمات قبل الأفراح، والاحتفالات، فهى العضد لأشقائها مع أبنائها، ويومها أتذكر دقة الرجل، أو جمال جملته، وقد حملت معى ١٢ سؤالا تحمل أهم التساؤلات للرأى العام للرجل الكتوم، ويومها أجابنى بدقة أبهرتنى شخصيا، وحملت إجاباته لكل الصحف جديدا، ووكالات الأنباء خبرا حديثا له دوىّ فى منطقتنا، وفى العالم أخبارا نُشرت وكانت حديث الساعة، حيث تكلم عن الأسواق، والنفط، ومستقبل المنطقة العربية فى ظل الأزمات التى تلاحقها، وتحدث عن كل بلد عربى فى أزمة، أو حرب، وكأنه يتحدث عن الإمارات، وكلماته باقية فى أذنىّ ما حييت. الشيخ خليفة (زعيم الإنسانية) هو من استكمل تمكين الإماراتيين فى دولتهم الفتيِّة عبر سياسات جعلت كل إماراتى يحصل على نصيب عادل من ثروة بلاده؛ وجعل دولته، عبر إنشاء المؤسسات، قوية تعمل بأساليب حديثة، ومعاصرة. نتذكره فى مصر، وقد كان، فى عهد والده، مشاركا فى سرية مشاة ميكانيكا بالجيش الثانى الميدانى فى حرب أكتوبر ١٩٧٣. كان معنا على خط القنال، وثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وقد كان أكبر داعم، هو وأخوه الشيخ محمد بن زايد، وبلاده لمصر للتخلص من الإرهاب، والأخونة، والتطرف. أما زميلنا، وأخونا الأكبر، فتى الصحافة، الشقى (من الشقاوة)، فقد كان له أسلوبه المميز فى الصحافة المصرية (الأهرام)، وهو ابنها المخلص.. إنه عزت السعدنى، رحمه الله، وهو منوالُ وحده فى عالم الصحافة المكتوبة، يكتب سبيكة من الذهب تخترق العقل قبل أن تستقر فى النفس والروح. جمالا، ومتعة للعقل، والروح. كتاباته نصف قرن فى الأهرام حملت عنوان محبة الناس، خاصة البسطاء، والفقراء، والمهمشين. كان الأستاذ السعدنى يصل إليهم مباشرة، وينقل ما يفكرون فيه، ويقدمه، ويكتبه وجبة سهلة للقراء.. يهضمها الجميع.اختار يوم السبت وهو لعلم الناس أصعب أيام الأسبوع على «الأهرام»، لأن منافسنا هو العدد الأسبوعى الأقوى، والأكثر انتشارا (أخبار اليوم)، حيث تحتشد فيه هذه الصحيفة لكى تكون هى نجمة الأسبوع، فكان السعدنى يخطف يوم السبت، وكان يقدم لـ «الأهرام» ولقرائه تحقيق السبت، لأنه جدير بالمنافسة، ويومها عرفت أن قراء «أخبار اليوم» يشترون الأهرام يوم السبت لكى يقرأوا عزت السعدنى، ويعيشوا، ويتغذوا على وجبته المهنية الكاملة، والمتكاملة. السعدنى الكاتب المبهر ستظل كتاباته شاهدة على نجم صحفى مر كبريق، وخطف عقول الجميع، حتى الأطفال عندما جسد لهم «علاء الدين» عائدا من التاريخ، ليعيش معهم حضارة معاصرة، وجديدة.. مجلة تكتب تاريخا لمؤسسة الأهرام فى حب الأطفال، والشباب، فاستحق الخلود، وتقدير القراء عامة، ومحبة الأهرام، والأهراميين خاصة، فشكرا عزت السعدنى. أما الشخصية الثالثة التى أتحدث عنها بحب، واحترام، وتبجيل، فهى الإنسانة التى خطفت العالم كله، وعقولنا، وقلوبنا معها عند الرحيل، وهى الصحفية، والإعلامية القديرة (شيرين أبوعاقلة)، الفلسطينية، العربية، العالمية، التى جمعت كل ما تحب فى عملها، وتفوقها الإنسانى، والمهنى. هذه الإنسانة الرقيقة حملت على كتفيها، وفى قلبها، وعقلها قضية تنوء عن حملها الجبال (فلسطين)، واستطاعت أن تجعل صوت الفلسطينيين يُدوى فى كل مكان فى العالم، وبكل اللغات. صحفية جعلت الكاميرا، والكلمة أقوى من السلاح، ومن الجيوش.. اخترقت بهما عقول الناس فصنعت وعيا، ودقت على الآذان فى كل العالم: هناك شعب وحيد (شعب فلسطين) تحت الاحتلال. يعانى كل أدوات القهر. كان صوت شيرين أبوعاقلة هو الأقوى. خافت منه العسكرية المفرطة للاحتلال، والهمجية الاستعمارية، الاستيطانية، التى لم يعرف العالم نظيرا لها حتى الآن. لم تستطع معه صبرا، وخافت منه، ولا توجد كلمات ترد بها عليها، أو منطق يسمعها، فكان الحل رصاصة يطلقها قناص إسرائيلى، أسقط الإنسانية من قلبه قبل أن يفعل، وقتلها وهى ترتدى الخوذة، والسترة، وتحمل شارة صحفى.. لم يستطع أن يتحمل سماع صوتها، بل لم يستطع أن يتحمل دفاعها عن القدس، والمسجد الأقصى. خاف من كل ما تحمله شيرين من حب للحياة، ولوطنها، وأهلها، والعالم. خاف من استقراء، وقوة، ومنطق أفكارها؛ فقرر أن يسكت الصوت، فأطلق رصاصات الغدر، وانعدام الضمير. عندما رحلت خاف العدو من جنازتها، ومن وداع شعبها لها، ووجد أنه خسر، فقرر أن يواصل الخسارة، فارتكب أفظع جريمة، فاعتدى على جثمانها المسجى، وعلى شعبها، وأهلها، ومحبيها. لقد أعطيت يا شيرين، رحمكِ الله. لبلدك وعروبتك ما يستحقانه، فاستحققت خلودك، واحترامنا.