مقالات الأهرام اليومى

نقاط على حروف الحروب

لأن القدس عزيزة وغالية في كل حين، سواء كانت حرة أو أسيرة تحت الاحتلال، كما هى الآن، تأبى حركة التاريخ إلا أن تضعها على قمة أولويات المنطقة العربية والعالم، وعلى رأس أى أجندة، حتى عندما تدهمنا الأزمات والكوارث والإرهاب والحروب بكل أشكالها المعروفة، أو تلك التى يخبئها لنا الزمن. فكل بلداننا العربية تعيش عصر المحنة الشاملة، تتكالب عليها كل القوى والعدوان والاستعمار بأشكاله القديمة والجديدة، العالمية منها والإقليمية، إما بقتل الشعوب أو تشريدها، ثم تفكيك الأوطان بتأليب الطوائف والأديان. فى حالة سيولة تستعصى على العقل والمنطق، فكيف نستطيع رصد كل تلك المتغيرات المتنوعة والمتسارعة لنعرف أين نقف حتى نخرج سالمين، في حين أن أكثرنا لا يعرف حجم الأخطار التى تحدق بنا من كل مكان؟

جاء قرار الرئيس الأمريكى ترامب بنقل سفارة بلاده إلى القدس ليشعل المنطقة المشتعلة أصلا بالحروب الفعلية:حروب جوالة الإرهاب، والفتن الدينية والطائفية، فهل من مهمات الدولة العظمى حل المشكلات والتهيئة للسلام، أم تفجير الحروب، وفتح الطريق للإرهاب والتطرف؟ إن هذا ما حدث! فكل الاستعماريين الكبار حاضرون بجيوشهم فى منطقتنا، يقتلون ويشردون من فى الأرض ومن فى الجو ومن فى البحر، بل وتحت رماد الأحداث والنيران، ولكن الخطر الأكبر يكمن فى حروب سرية لم يُعلن عنها بعد. فهل منا من لا يرى، ولا يسمع، عن القوات الأمريكية والروسية والتركية والإيرانية، وهى تتجول بطائراتها وجنودها فى المنطقة، تقصف الضحايا، وتشرد الملايين فى سوريا والعراق واليمن وفلسطين؟ وطبعا يأتى فى مقدمة هذه القوى الاحتلال الإسرائيلى الذى طال لأراضى فلسطين والقدس العربية، حتى خرج علينا الرئيس الأمريكى ترامب فى السادس من ديسمبر2017، الذى سبق أن بشرنا بالسلام وحل مشكلة الشعب الفلسطينى بقيام دولته المرتقبة، ليعلن نقل سفارة بلاده إلى القدس فى خطاب مرتبك. هى محاولة يائسة لإبعاد الاهتمام الأمريكى عن التركيز على أخطاء سياساته ومشكلاته الداخلية العميقة إلى موضوع يتصور الرئيس أنه جماهيرى، وأنه سوف يعيد له كل ما يفقده من بريق وسلطة، منذ صعوده إلى سدة الحكم فى انتخابات صعبة ومرتبكة، ويتيح له استخدام صلاحياته فى الكونجرس الذى تضعف سلطته عليه بأنه ينفذ قراراته التى صدرت عام 1995، وعجْز رؤساء سابقين، صقورا وحمائم، عن تنفيذها. هى محاولة يائسة لأن العالم كله شرقه وغربه، مسلمين ومسيحيين، يرفضون هذا القرار الذى يهدد التعايش بين الشعوب والأديان، وأن القدس طبقا لوضعها هى نقطة ارتكاز لكل الأديان السماوية الثلاثة، وليست عاصمة لإسرائيل وحدها، وأن دولة الاحتلال الإسرائيلى لم تستطع، رغم مرور أكثر من نصف قرن على احتلالها، أن تفرضها عاصمة لها، وأن أول من يخشى هذا التحول هم الإسرائيليون أنفسهم… أراد الرئيس ترامب أن يختبر قوته، فكان رد الفعل المهيب، من العالم كله، مذهلا للرئيس، وأعطاه درسا بليغا، ومن حيث أراد أن يبرز اختلافه عن أسلافه، فظهر ضعفه جليا في عجزه المزرى وتهافته فى عدم قدرته على التعامل مع حليفه نيتانياهو. فقد كان من باب أولى أن يقنع المحتل ويلجمه عن غيه وعنفه وضربه للسلام والتعايش، ويشرح له أبعاد وأهمية الحل للمشكلة الفلسطينية ولقضية القدس، ليس لإسرائيل وحدها، ولكن لأمريكا وأوروبا والعالم كله. هذه هى قوة القدس وبركتها، فهى قادرة على الدفاع عن نفسها في كل الظروف، وإبراز قوتها لتعرية الضعفاء، رغم تباهيهم بالقوة والقدرة وهذا ما ظهر من ردود الفعل على قرار الرئيس الأمريكى، والتى كشفت له أنه وإدارته غير قادرين على السير فى هذا المسار، بل إن عواقبه وخيمة على بلاده، وعلى العالم وعلى من يمثل.. وعلى من اتخذه، ومن يسير فيه! فالقدس مقدسة كمدينة، وهى حق للعرب للمسلمين والمسيحيين واليهود غير الصهيونيين، فمسجدها مسرى رسولنا الكريم، وفيها كنيسة السيد المسيح (القيامة)، بل حتى حائط المبكى لليهود بناه ووضع حجراته الفاطميون. وشعوب العالم، مسلمين ومسيحيين، هى التى ستدافع عنها كعاصمة لدولة فلسطين، ليس من أجل استقرار المنطقة، ولكن من أجل استقرار العالم. وقد وضع الرئيس ترامب بقراره قضية القدس على رأس كل أجندة بأى مفاوضات مقبلة، وإذا كان نائبه مايك بينس فى طريقه إلى المنطقة ليشرح أبعاد الموضوع، فيجب قبل أن يقلع من بلاده، وحتى يكون مقنعاً، أن يشرح معنى ما حدث، ويقدم تفسيرات إدارة ترامب، وحيثيات نقل السفارة إلى القدس، وأنها لن تكون قادرة على تنفيذ هذا القرار إلا بإعلان سفارة أخرى لأمريكا في القدس الشرقية، لتمثيلها فى فلسطين، الدولة الجديدة، وأن تضع الفلسطينيين والإسرائيليين أمام واقع جديد، لكيفية صناعة السلام الإقليمى، وسيكون ذلك مقدمة أساسية لكى نجلس سواء حول مائدة الأمم المتحدة أو مع القوى المتحاربة فى الشرق الأوسط، لوقف الحرب في سوريا، والحفاظ على وحدتها وإعطاء شعبها المشرد حق تقرير المصير، والتخلص من قوات الاحتلال الأمريكى والروسى والتركى والإيرانى، أو من تداخلات ميليشيات حزب الله اللبناني، أو الحشد الشعب العراقى المدعومتين من إيران. أما باقى الأزمات، والتى أشعلتها إيران بخلق الأزمة القطرية، وأزمة جماعة الإخوان المسلمين ورغباتها المحمومة في البحث عن سلطة ترفضها الشعوب العربية فى مصر والمشرق والمغرب العربى واليمن، فهى أزمات هامشية ستنتهى فور الجلوس إلى طاولة التفاوض ومكاشفة إيران وتركيا بتداخلاتهما الإقليمية، ومحاولاتهما العبثية بضرب التركيبة السكانية والدينية في المنطقة العربية، لتخلقا لنفسيهما مكانة، وملعبا سياسيا تقايضان بهما على أزماتهما الداخلية. وياحبذا، لو جلست دول العالم حول هذه المائدة لإيقاف حروب الشرق الأوسط ، وقامت بإعلان الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وإخلاء المنطقة من الأسلحة الذرية، سواء كانت إيرانية أو إسرائيلية.. هذه نقاط على حروف معلنة أو غير معلنة، عن حروب حالية أو قادمة، تحمل فى طياتها مخاوف، ليس لنا وحدنا، بل للعالم كله!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى