مقالات الأهرام اليومى

فى انتظار «العم جلال» من جديد!

عرفت المناضل العراقى جلال طالبانى الكردى الأصل الذى استطاع أن يصعد رئيسا للعراق فى أصعب سنوات الاحتلال الأمريكى (2005-2014)، وأن يتحقق الجلاء، نسبيا، خلال حكمه، وكنت حريصا فى سنوات عملى بالأهرام والأهرام العربى أن أسمع إليه وأرى فى رؤيته حكمة بالغة، واعتبرت رئاسته للعراق اعترافا من العراقيين باحترام كفاح الشعب الكردى، وأن العراق المتعدد الأعراق والطوائف سيجتاز خلافات القرون الوسطى التى تقوم على الغرائز والانتماءات القبلية والعشائرية والدينية والطائفية، ولم أكن أرى أن انتخاب طالبانى الكردى رئيساً لكل العراق، استثناء، وذلك لشخصه وتاريخه النضالى الطويل. وعندما تناقلت الأخبار رحيل الرئيس العراقى السابق طالبانى تذكرت كلماته لى وهو يودعنى بعد مقابلة استغرقت ساعات، وكان فى زيارة للقاهرة عام 2007 ويقول لا تنسوا العراق فى مصر، وقلت له لن ننسى العراق، كما لن ننسى إخوتنا وحبنا للأكراد، فأبرز قادتنا كردى (صلاح الدين) وأبرز كتابنا (العقاد كردى) وأبرز فنانينا ونجومنا أكراد، لا نفرق بيننا وبينهم، ومن يخلق التفرقة هم أصحاب المصالح وليس الشعوب، وهم من يوظف التفرقة والتمييز ليحققوا مصالح شخصية بحتة، تجعلهم من يرتكبون جرائم، وهم لا يبغون فى مصلحة الوطن.

هل كان الرئيس العراقى طالبانى يفضل ساعة رحيله أن يودعه العراق كله أم يودعه الشعب الكردى فقط ؟ هل كان سيقبل بأن يُلف بعلم كردستان وحدها أم بعلم العراق كله، فهو زعيم عراقى بل زعيم عربى يعرف عن العربية والثقافة العربية بعمق، ويدرك حقائق انتماء الأكراد للعرب، وأن العرب لا يرفضون أن جزءاً من شعوبهم هم الأكراد. القضية الكردية إحدى الموروثات التى بقيت لنا مغروسة منذ الحرب العالمية الثانية .. الأكراد من شعوبنا التى وقع عليهم الظلم بتقسيمهم وتهميشهم فى 4 بلاد (إيران وتركيا وسوريا والعراق)، والخلافات التى ظهرت فى إقليم الشرق الأوسط بين شعوبه أثرت عليهم، كما أثرت كل الشعوب العربية، فالنظم الديكتاتورية والفاشية الدينية عندما تتعصب وتنفرد بالحكم لا تفرق بين عربى وعربى آخر، وكردى أو سنى أو شيعى أو مسيحى، الكل ضحايا ما حدث من البعث العراقى والسورى ضد الأغلبية السنية فى البلدين أقسى وأكثر صعوبة مما تعرض له حتى الأقليات. وقد كان من المتصور أن يسود نهج طالبانى فى الحوار والحفاظ على دولة العراق ووحدتها، فمسار تلك الدولة التى تعانى منذ عقود حروبا متتالية وديكتاتورية واحتلالا بغيضا فرق بين الشعب، وحكم عبر الطوائف، وساعد على ظهور التطرف والدواعش الذين هددوا استقرار ووحدة العراق، ولكن الاختلالات التى خربت العراق ككل، تمثل فى التدخل الإيرانى المقيت فى الشأن العراقى ثم الضعف الأمريكى وفشل الاحتلال، وكل هذا أعاد قضية الأكراد واستقلالهم إلى الواجهة، حتى الاستفتاء الأخير كشف عن رغبة كاسحة لدى الأكراد بالانفصال، وهو ما يهدد وحدة العراق، ويفتح أبوابا من التوتر والخوف على دولة مازالت هشة. تجربة العم جلال.. أو«مام جلال» كانت يجب أن تكون قدوة للزعيم الكردى رئيس كردستان مسعود البرزانى، وأن تدفعه هو وحزبه إلى مزيد من الحفاظ على قوة الأكراد من خلال وحدتهم مع العراق، وأن يساعد فى بناء الدولة المدنية الحديثة التى تحترم كل الطوائف بمساواة كاملة، وأن تنتقل هذه التجربة إلى المنطقة المحيطة خاصة فى تركيا التى تضطهد الأكراد، أو فى إيران التى تلغى وجودهم، وإلى سوريا التى هضمت الأكراد نسبيا. فمسار الانفصال والتفتت ليس الطريق للحفاظ على المصالح الكردية، وإن كان يجب علينا جميعا الاعتراف والعمل على تكريس هذه المصالح بالأساليب الحديثة، وكسب ثقة تلك الشعوب بالوحدة والعمل المشترك، وليس بالصراعات والتفتيت.

إن تجربة انقسام جنوب السودان أثرت بالسلب على كل الإقليم السودانى، وأضرت بشعب الجنوب نفسه، هذا ما يجب أن يلتفت إليه الأكراد، بأنهم سيكونون أقوى وأفضل فى ظل دولة واحدة، وسيكسبون من إقليمهم فى ظل الوحدة أكثر من الانفصال الذى سيكون فاتحة لصراعات جديدة داخل إقليمهم. إن استفتاء إقليم كردستان ليس طريقاً للانفصال بقدر ما هو رسالة لشعوب المنطقة بأن هناك أساليب جديدة للعمل، وأنه من الضرورى أن تكسب الشعوب، ليس بالتهديد أو الوعيد أو الحروب والصراعات، بل بحقهم فى حياة كريمة تحترم خصوصيتهم وثقافتهم، وهذا ما يجب أن تفعله الحكومة المركزية فى العراق، وأمامها فرصة تكسب بها كل الطوائف حتى لا يتمزق هذا البلد العزيز علينا، والذى بتماسكه ووحدته يتماسك العرب، ويتحدون ويصبحون قادرين عل مجابهة المستقبل وتحدياته. يبدو لى أن رحيل جلال طالبانى قد يكون رسالة جديدة للأكراد وللعراقيين معا، مثلما كانت حياته نضالا حقيقيا، وذلك للاعتراف بحقوق شعبه الكردى، وأن رحيله قد يوقظ روحا جديدة لدى الأكراد، وقد تخرج بالعراق من الحالة الطائفية! ومثلما كانت شخصيته عابرة للانتماءات العرقية، وعلاقاته وطيدة بمختلف أطياف السياسة العراقية، فإنها قد تجعل العراقيين يتعاونون جميعا، ويدركون أن الوحدة العراقية أهم من التحالفات البغيضة، سواء مع إيران أو تركيا. إن العراقى العربى أقرب للعراقى الكردى من أى تحالفات خارجية، و لغة الحوار والعقل ليست بعيدة عن الأطراف فى العراق، ولكن على القوى الخارجية أو أصحاب المصالح البغيضة أن يتوقفوا!! وأن يساعدوا العرب العراقيين على اجتياز تلك الأزمة العابرة، ويجب أن يحتضن العرب الكرد، كما يجب أن يتعاون العرب السنة مع العرب الشيعة، ويوقفوا التداخلات الإيرانية والتركية والإسرائيلية فى منطقتنا!! وأن يعرفوا أن الأزمات والصراعات والحروب الداخلية ستظهر مع قيام دويلات صغيرة غير قادرة على الحياة، على أن يظهر قادة وزعماء من كل الطوائف، ليكونوا قادرين مثلما كان جلال طالبانى قادراً على صناعة الوحدة فى ظل التنوع، وأن يكون الاختلاف قوة للمنطقة، وليس إدارة للصراعات. إنه امتحان جديد للعراق، فهل سيجتازه؟ وهو امتحان ليس العراق وحده بل لكل العرب، إذا اجتازه العراق ستكون إشارة إلى قدرتنا على الاستمرار بلا تمزق أو تفكك. دعونا نأمل. وهذه دعوة لأن نقف مع كل العراق، ونستجيب لنداء الراحل الكريم جلال طالبانى، فلابد أن يكون العراق لكل الطوائف والأعراق .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى