مقالات الأهرام اليومى

سطور من تاريخ البنائين الكبار

الزمن يلخص حياة الناس، ويعكس تاريخ المجتمعات. وكانت لحظة وداع الراحل الكبير إبراهيم نافع عميقة ودالة، سواء من الأهرام الصحيفة، والمؤسسة التى عاش طوال عمره ليبنيها، ويجعلها تقف فى مصاف المؤسسات الكبرى فى المنطقة العربية والعالم، أو من جامع عمر مكرم بالتحرير، أو عند مثواه الأخير بالسادس من أكتوبر، فقد أحيط بحب، وقلوب، وتدفق مخلص وأمين. فأنسانا ذلك المشهد حال الحزن العميق على ظروف الرحيل، ونحن نودع جزءا غاليا من حياة كل منا، بل من حياة الأهرام وهى وطن بالنسبة للعاملين والقراء. وعندما يجتمع الناس على الحب، فهم «ألسنة الحق»، وقد أحاطوا جثمانه: الأهل والزملاء، وكل القلوب المؤمنة. كان صوت الأقلام المؤمنة عاليا، بأن خالقنا عز وجل، تقبل وديعته واستقبله مثلما ودعوه، وأن كلا منا كان يودعه، ويشهد بأن الراحل أدى واجبه باقتدار وكفاءة وإخلاص، وأن أصواتهم رسالة بليغة بأن مسيرة العمل، وما يتحقق لحياة الناس والمجتمعات ليس عبثاً، حتى ولو واجهت صعوبات واتهامات مغلوطة وحروبا لا تتوقف. هذه الكلمات ليس رثاء للراحل والأستاذ والمعلم، بل هى سطور من تاريخنا المعاصر.

تذكرت الأستاذ، وطاف فى ذهنى تاريخ بدأ منذ منتصف السبعينيات. عاد من واشنطن، وكان فى منصب رفيع يحسد عليه، أتاح له معرفة ما يدور فى الشرق الأوسط، وما يجرى من تطورات فى الاقتصاد العالمي، والأهم اكتساب خبرات اقتصادية وإدارية تناسب العصر الجديد. وبدأ وقتها بإعادة تكوين القسم الاقتصادى فى الأهرام، وغطى أصعب فترات التحول الاقتصادي، والانتقال من الاقتصاد الشمولى إلى الاقتصاد الحر، بقيادة عمالقة منهم د.القيسونى ود.السايح فى الحكومة، وخبراء كبار منهم: د.سعيد النجار ود.إبراهيم شحاتة. وهؤلاء مهدوا لانتقال مصر بسلاسة، حتى يصبح لها قطاع خاص قادر على التنمية الشاملة، بعد أن كان قطاعا هامشياً لا يؤثر فى الاقتصاد الذى عاش سنوات طويلة- بعد ثورة يوليو فى الخمسينيات ثم التأميم- على أكتاف القطاع العام. وكان نافع القائد، هو ونفر من زملائه فى الصحف الأخري، وفى مقدمتهم سعيد سنبل، أبطالاً لتلك المرحلة، وقد يكون ذلك سبباً، جعل بعض أصحاب النظرية أحادية الإنتاج يتمادون فى معاداة الراحل الكريم حتى نهاية عمره.

ولكن المحرر الاقتصادى النابه اكتسب لغة رؤسائه فى العمل، وصار محط ثقة مصادره الصحفية، فكانوا يحرصون على اطلاع الأستاذ نافع على دراساتهم قبل غيره، وكان متطورا فى رأيه الاقتصادى وفكره الإدارى وسابقا لعصره، فيقدم لهم الجديد من خلال خبرات عملية اكتسبها فى البنك الدولي، ومعرفة بالاقتصاد العالمى إلى جانب تخصصه الإعلامى الرفيع، حتى إن رجال الأعمال حريصون على خبرة الأستاذ نافع وتحليله للمستقبل التسويقى لشركاتهم الجديدة. ومن هنا كانت مكانة الصحفى المتخصص الذى ارتقى إلى مرتبة المستشار والخبير.

خبرته النادرة، فى ذلك الوقت المبكر من التحول الاقتصادي، كانت مثار حسد، ولكن الخبراء النادرين عرفوا تلك الخبرة، فكانت طريقه ليتبوأ منصب رئيس التحرير، ورئيس مجلس الإدارة، ومكنته من إعادة بناء مؤسسة الأهرام على أسس اقتصادية جديدة، فتوسع فى الإصدارات والمراكز المتخصصة، لتغطى مجالات مختلفة كالطفل والشباب والمرأة والرياضة والاقتصاد والفكر والشئون العربية والدولية، ثم تطورت مراكز الأهرام المتخصصة فى الأبحاث والدراسات لتنافس نظيرتها فى العالم. ولكن البيئة الاقتصادية التى تحققت له فى سوق الإعلانات المصرية والعربية، عبر التفكير الحديث فى المؤتمرات والأحداث الرياضية والاجتماعية، جعلته صانع الأعمال الأول فى عالم الإعلانات، والمتحكم فى مسارها، سواء فى الأهرام، أو فى المنطقة العربية.. وقد دخل سوق الإعلانات فى الخليج العربي، منافساً لشركات بترولية كبيرة، وكان هذا هو (الطعم الكبير الذى اتهم فيه)، وكان قد أدخل معلنين جددا للإعلان فى الأهرام مقابل سلع وخدمات، لكى يعرفوا أن الأهرام هى الأكثر توزيعاً فى المنطقة، وكانت الأهرام تتعرض لمنافسة كبرى فى الإقليم، وهناك من كان يبحث عن تهميشها لصالح الإصدارات العربية الجديدة. وكانت تتحكم فى السوق الإعلانية شركات عربية بعيدة، تريد تهميش مصر كلها، وليس مؤسساتها الإعلامية أو الموارد الإعلانية. وجاء الحسد مرة أخري، فقد كان يحصل على الخبر والحديث قبل غيره، وكانت مصادره هى التى تتحدث عن إبراهيم نافع بأنه نشر الخبر أو أجرى الحديث، بينما كان هو، الهادئ دائماً، يعتبر ذلك طبيعياً كحق حصرى للأهرام.

وتحولت نقطة القوة إلى نقطة الضعف، فالرجل صدق أن قانون الصحافة يعطى حرية الإبداع والحركة لكى تنمو المؤسسة، وتنافس غيرها فى أسواق غير مواتية له. تصور نافع، بصدق، أن القانون أعطاه حرية الحركة حتى يجلب الأموال لمؤسسته ويجعلها منافساً قوياً، ونجح فى صناعة مؤسسة شاملة.. بإصدارات متنوعة.. ومبان ومطابع حديثة.. ومؤسسات متخصصة للدراسات.. ووكالات للإعلانات، تحصل على حصتها الإعلانية من قلب الأسواق المنتجة (فى اليابان وأوروبا وأمريكا). لماذا يفعل ذلك رجل مصرى فى زمن غير بترولي؟ إن الذين عاقبوه إنما عاقبوه على نجاحه، وحتى عندما كان يخرج من الأهرام لاحقته الأصوات والاتهامات، فيصمد فى الدفاع عن نفسه، ويفند الاتهامات بقوة. كنت أسأل نفسى دائماً من أين له هذه القوة؟ إنها قوة الصدق، قوة العمل الجاد، والإخلاص والتفانى من أجل المهنة ولا شيء غيرها. انتهت كل التحقيقات إلى مصير يعرفه كل من اقترب من الراحل الكريم، وإذا بالإعصار يأتى يلاحق كل الناس، والرجل بعيد عن السلطة، فتعاد الاتهامات بنفس اللغة، ونفس السقوط، وكان فى وضع لا يسمح له باستمرار المعارك، سنا وصحة وأمراضا، فاكتفى بالصلاة والدعاء، وسافر، وتلاميذه يسألون: متى ينتهى هذا الألم الطويل؟ لم نكن نعرف أن الخالق العظيم أعد له تكريماً من الناس والمجتمع، الحقيقة الآن بينّة، فكل من اتهمه جلس على كرسيه، ولم يستطع مجاراته بالأرقام والحقائق، وعرف الكل أن الصحافة منذ السبعينيات وحتى الآن كان اسمها: إبراهيم نافع. فى الأهرام عمل، ومن الأهرام خرج، وإلى سجل الخالدين دخل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى